من وحي جواد بولس

إلى الناظرين في مصير لبنان

  • لبنان لا ينعت إلا بذاته
  • رجل دولة لم يقرأ تاريخاً طبيب لم يدخل عيادة!
  • سياسة الدول هي في جغرافيتها.
  • امبراطوريات القوة دالت… وبقي لبنان لأنه فكر.
  • لبنان أمنع بنيان سياسي في الشرق الأدنى.
  • التعددية اللغوية رأسمال لبناني منذ ٢٣٠٠ ق.م.
  • ظاهرة الديمقراطية تاريخية:

الفينيقيون هم السباقون إلى إطلاق الجمهورية الأولى التي يحكمها حكام منتخبون.

  • إن تميز وجه لبنان الطبيعي من وجوه جاراته ميز تركيبه الروحي والإجتماعي من الشعوب المجاورة.
  • لأن جباله في خطٍ محاذٍ للبحر فقد فصلته عن الصحراء وصوبته نحو البحر.

أقول لبعض الذين اجتمعوا في جنيف بلسان المؤرخ الراحل جواد بولس: “إن المعرفة السياسية هي وليدة الإختبار أو الذاكرة الشخصية في الإنسان”. وقياساً عليه، فالتاريخ هو ذاكرة الإنسانية بأجمعها.

وأتوجه إلى بعض هؤلاء الطامحين إلى أن يكونوا رجال دولة بالقول: إن رجل الدولة الذي لم يقرأ التاريخ هو كالطبيب الذي لم يدخل عيادة أو مستشفى، أو هو كالمحامي الذي لم يتدرج في مكتب محاماة ولم يرافع في قضية.

وعليه، أين هؤلاء الباحثين في شأن لبنان من الخبرة السياسية العريقة أو الثقافة التاريخية المفترضة ليبحثوا في هوية لبنان.

يقول نابليون رجل الدولة بجدارة: “إن سياسة الدول هي في جغرافيتها”.

وعليه، فسياستنا تنبع جغرافيتنا التي لم تتزحزح منذ ستة آلاف سنة،برغم محاولات القوة للسيطرة على لبنان.

فها هي امبراطوريات القوية زالت، من الفراعنة إلى الفرس إلى الإسكندر إلى مملكة تدمر إلى بيزنطية إلى مملكة داود وسليمان إلى مملكة الأنباط في بترا إلى قرطاجة… إلى مماليك الخلفاء والفرنج والمماليك والأتراك إلى امبراطورية هتلر والأمبراطورية البريطانيا… والجبل على الجرار.. كل هذه الأمبراطوريات والممالك زالت وبقي لبنان الستة آلاف سنة صامداً.

لماذا؟

أجيبكم بلسان رجل الدولة نابليون: “ليس في العالم إلا قوتان: السيف والفكر”… ولكنه أردف ذلك بقوله: “… ومع الزمن، ينتصر الفكر على السيف”.

ولأن لبنان فكرٌ منذ أن شع بالحرف والأخذ والعطاء أو المبادلات الحضارية وعطاءاتها كالموسوعة الزراعية العالمية التي خلفها في قرطاجة، فقد بقي قوس قزح للشعوب المحبة للسلام، فقد بقي قوس قزح للشعوب المحبة للسلام في وجه مطامع القوة. حتى أنه، عندما إضطر لجبهها على مشارف روما يفكر هنيبعل العسكري كانت بالنسبة إليه وسيلة لغاية هي السلام.

الأجانب فهموا لبنان، ولم يفهمه بعض بنيه.

يقول المؤرخ بلانهول الفرنسي: “إن جبل لبنان هو أعلى قمة في بلدان الشرق الأدنى، إذ يتجاوز ارتفاعه ثلاثة آلاف متر، كا أنه الأوفر نصيباً بالثروات المائية… وينعم، علاوة على ذلك، باتصال مباشر بالبحر المتوسط، إذ تشرف جباله الوعرة على خلجان الشاطئ ومرافئه… وهذا الطابع المزدوج الذي يجعل من لبنان، الجبل العالي، صنواً للإستقلال، ومن لبنان الجبل البحري، إنفتاحاً على التأثيرات الخارجية، يفسر لنا سر لبنان كدعامة لبناء سياسي هو من أقوى البنى السياسية في الشرق الأدنى ومن أكثرها أصالة”. (التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الأدنى منذ الإسلام – جواد بولس، صفحة ٢٣).

هذا الطابع الجغرافي الذي رسمه بلانهول هو الذي أضفى، على الشعوب الأصلية التي توطنت لبنان والتي انضافت إليه بفعل الهجرات والغزوات، طابع الحرية اليتيم في الشرق وطابع الإنفتاح والتفاعل.

وتحضرني في هذا المجال حادثة تنم عن تأثير البيئة على معطيات الكائن النفسية والروحية وهي أن: ذهب مرة شاعر بدوي إلى أحد الأمراء فأنشده قصيدة مطلعها “أنت كالدلو لا عدمناك دلواً… إلى أن انهاها: أنت كالتيس في قراع الحروب”. وهنا لم يتمالك الأمير نفسه فأمر جندي بقتل الشاعر. ولولا حكمة وزيره الذي بادره : مهلك. فالشاعر يقصد التجريح عندما يصفك بالدلو أي العطاء، وبالتيس للتدليل على أنك مقدام في الحروب. دعه في جنائن غرناطة مدة وأن الكفيل لك بأرقى قصيدة. وبعد المهلة المحددة عاد الشاعر حاملاً قصيدته المتوجة: “يا من حكى ورد الرياض بخده… وحكى قضيب الخيزران بقده”.

انها حادثة بسيطة. الا أنها تنم عن تأثير البيئة الطبيعية على نفسية الإنسان وردود فعله وتعابيره بين مناخ وبين بيئة وأخرى.

وعليه، “فالمناخ والأرض والتربة والأغذية تعمل كلها معاً لتمارس تأثيراً فيزيائياً – نفسانياً مباشراً. حتى منظر البيئة الطبيعي ينعكس بطريقة لا شعورية على طبيعة الإنسان… فطريقة الحياة التي تفرضها البيئة، تؤثر في تكوين الطبائع… فالبيئة إذن تعمل تاريخياً. (التحولات… صفحة ٢٠).

ثم” إن الموقع الجغرافي يدعو الجماعات البشرية إلى التحرك، أو على العكس، يحدد لها مكان للتحرك… فالبيئة إذن محرك تاريخي قوي… وعامل جوهري في التاريخ…

“إن الأرض والمناخ… يطبعان ملامح الوجه بطبائع تميز الأجناس البشرية والأقوام والشعوب… وميزة المنظر الطبيعي تصهر روح الشعوب. فهو الذي يصنع خصائصها القومية الثابتة… وهكذا، فالمناطق الحارة أو الباردة، والجبال والسهول والصحارى والأحراج… تولد نماذج بشرية مختلفة. (التحولات… صفحة ٢٠ – ٢١).

“إن المناخ قد يعزز نشاط الإنسان أو يضعفه أو يعيقه. فالبرد ينمي النشاط والإستعداد للعمل والميل إلى الإستقلال… والحر يساعد على الكسل ويثير الأهواء العنيفة. إن الأرض تؤثر على غذاء الإنسان. وعلى التناسل، وعلى إنتاج الثروات وتوزيعها، ومن ثم على تكوين طبقات المجتمع، وعلى إنماء المؤسسات السياسية… والموقع الجغرافي لمنطقة ما يحدد إطار نشاط الشعب الذي يقيم فيها، كما يرسم توجهه واتجاهه. (التحولات… صفحة ٢٢).

هذه الحقيقة الجغرافية تعكسها الحياوة أو علم الحياة والبسيكولوجيا أو علم النفس لأن “كل كائن حي (انسان أو حيوان أو نبات) هو وليد عنصرين اساسيين: التراث الإرثي والبيئة الطبيعية. (التحولات… صفحة ٢٠).

فاللبناني الذي إنخرط في بوتقة الأرض اللبنانية لا بد وأن يذوب في كيانها على غرار “الخميرة التي تذوب وتختفي في العجينة التي خمرتها” والتعبير لرينان.

واللبناني الذي شاءت جغرافيته أن “يكون على مفترق طرق دولية كبيرة، منذ أقدم العصور، إستعمل لغات أجنبية عديدة إلى جانب لغته الأم. فآثار مدرسة قديمة في جبيل – بيبلوس، تظهر أنه حوالي العام ٢٣٠٠ ق.م.، كان الطلاب يتعلمن اللغة الأكدية أو البابلية إلى جانب اللغة المحلية أو الفينيقية… دلائل أخرى تشهد أنه منذ تلك العصور القديمة كان جميع السكان يتكلمون أيضاً اللغة المصرية. وفيما بعد، عندما تبنى البلد اللغة الآرامية أو السريانية، اضيفت إليها اللغة اليونانية واللغة اللاتينية كلغتين مكملتين.

واليوم، إلى جانب اللغة الوطنية، يتكلم اللبنانيون بالفرنسية والإنكليزية وقليلاً من الإسبانية والإيطالية فضلاً عن اللغة التركية والأرمنية”… ولغات أخرى عديدة. (الأسس الحقيقية للبنان المعاصر الصدر حديثاً عن مؤسسة جواد بولس ودار عواد للمؤرخ جواد بولس).

إذن، فلا مشكلة لغوية في لبنان إذا نظرنا إليها بهذا الواقع التاريخي المجرد، وهي على أي حال رأسمال لبناني كبير في التعاطي والتعامل مع سائر شعوب الأرض.

وكما أنه لا مشكلة لغوية، في المنظور التاريخي، كذلك لا مشكلة دينية، في المنظور التاريخي، برغم إستغلال الدين تاريخياً في لبنان، وغيباً في الدول المتتاخمة معه. لأنه كما يقول المفكر الفرنسي بوردون: “إن الدول الأكثر خصاماً هي الدول المتتاخمة”.

وللتدليل على أن لا مشكلة دينية في لبنان تاريخياً، نورد ما سجلته نصوص رأس شمرا المكتوبة حوالي العام ١٤٠٠ ق.م. ففيها “أنه منذ تلك العصور البعيدة كانت الشعوب الكنعانية والفينيقية تؤلف تجمعين دينيين كبيرين، يعبد أحدهما “بعل” والآخر “ايل” إلهي البلد الكبيرين. وكان يشار إلى هذين التجمعين باسم “شعب بعل” وشعب “ايل”… وإذا تذكرنا أن الآلهة القديمة الكبيرة كان لديها وظائف دينية عدة، وأن كل تجمع كان يرتكز على وظيفة أو أخرى، عندئذ تتكون لدينا فكرة عن تنوع المذاهب الدينية في هذا البلد الكنعاني القديم”. (الأسس الحقيقية للبنان المعاصر. صفحة ٩١)… فهل تغير شيء في هذه المعادلة التاريخية اليوم؟!

تبقى معادلة الإرادة في العيش المشترك، وعلى الأساس التاريخي المشترك، خير دليل لتعريف الأمة اللبنانية الحديثة، لأنها التحديد الحديث للأمة، أي أمة.

وفضلاً عن هذه الإرادة المشتركة، إذا بقيت، يبقى “مبدأ روحي، يولد المشاعر العليا التي يأتي في رأسها التضامن الإجتماعي أو الشعور الوطني… فإذا كان الوطن هو التجسيد الصوفي للأرض المغذية وللأحياء الذين يقيمون عليها والأموات الذين سبقوهم، وقد حل بذلك محل الصوفية الإثنية، والدينية أو السلالة المالكة قديماً. هذا المفهوم العاطفي الحديث أقام (مقابل مذابح الله والملك، المذبح العلماني الذي هو الوطن والذي سيسطر أثر فأكثر على الباقين”. (الأسس الحقيقية… صفحة ٧٩)… “وهكذا باتت الناس تموت من أجل وطنها كما كانت في الماضي تموت من أجل ملكها أو دينها”.

وإذا كان من تيارات تنزع إلى الإلتحاق بهذه أو تلك من الدول والشعوب، فإنها بذلك تخالف سنة التاريخ والجغرافيا. إذ تكون بعملها هذا قد نزعت عن المجتمع اللبناني صفة الليبرالية المتحررة وصفة التعددية الحضارية العالمية والمنفتحة النتيجة عن موقع لبنان البحري ونشاطه الفكري والتجاري.

“إن هذا النشاط المميز الذي جعل من لبنان منذ أقدم العصور، بلد الترانزيت الدولي ومنطقة إستقبال وضيافة، كون بورجوازية رأسمالية ليبرالية وديمقراطية قبل الحرف، وحقلاً مفتوحاً بحرية لأي مبادرة كانت أصلية أم غريبة، وملاذاً لكل الأشخاص الباحثين عن الحرية”. (الأسس الحقيقة… صفحة ٥٦).

فطابع لبنان الحر ثابت تاريخياً. “ففيما كان الشرق القديم كله يرزح تحت أحكام مطلقة من الطغيان الأرعن وينقاد لملوك كانوا بمثابة أبناء الآلهة أو ممثليهم، كانت الحال مختلفة في فينيقيا – لبنان. كانت هناك مجالس تشارك الحاكم، وغالباً ما كانت تتخذ قرارات معاكسة لإرادته”. (الأسس الحقيقية… صفحة ٥٦).

ثم “إن الفينيقيين هم السباقون إلى إطلاق فكرة الجمهوريات الأولى التي يحكمها حكام منتخبون هم القضاة”. (الأسس الحقيقية صفحة ٥٦ – ٥٧)

وبفضل هذا النظام الحر لعبت المدن الفينيقية، على غرار المدن الهلينية، دوراً كبيراً في حياة العالم القديم وتطوره. بحيث دفعت ابناءها إلى إرتياد العالم وزرع الآفاق بالمعرفة والعمران كما حصل في قرطاجة وكما يحصل اليوم في أميركا وربا وأفريقيا وسائر بلدان العالم.

إن موقع لبنان، بجباله التي تفصله عن الصحراء وتوجهه نحو البحر، قد حدد مسيرته عبر العصور، فضلاً عن تميز وجهه الطبيعي من وجوه جاراته، مما ميز تركيبه الروحي والإجتماعي من الشعوب المتاخمة له… حتى التي تعتبر أقرب إليه، عنيت الشخصية السورية. “فإن إختلاف البيئة الجغرافية في البلدين (الجبل والبحر في لبنان والواحات والبادية في سورية)، يجعل منهما، رغم التصاقهما جغرافياً، اقليمين مختلفين جغرافياً وسياسياً، يكمل احدهما الآخر إقتصادياً”. (التحولات… صفحة ٢٧).

فلو كانت الجبال اللبنانية غير محاذية للبحر، أي لو كانت هذه الجبال متجهة بخط عمودي من البحر إلى العمق السوري لكان بالإمكان تغير مجرى التاريخ جرياً على مجرى الجغرافيا، أما والحال هذه، فأن ربك لم يشأ الناس أمة وحدة… لحكمة يعرفها راسم الأكوان وحده.

سيمون عواد

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *