“١٩٠٠ – ١٩٨٢”
“ومن وعي التاريخ في صدره أضاف اعماراً إلى عمره”
شخصية جواد بولس
مع مطلع هذا القرن وتحديداً في السنة ١٩٠٠ ولد المؤرخ جواد بولس في زغرتا.
في طفولته وعى الحياة السياسية على أخبار جده لأبيه الشيخ أسعد فضلاً عن الوقائع الحربية التي حققها بنجاح أثناء قياديته العسكرية لقوات يوسف بك كرم جنباً إلى جنب مع البطل الشمالي المعروف.
لعب جده دوراً كبيراً زمن المتصرفية إلا أن الدولة العثمانية ضاقت بدعواته التحريرية فأبعدته إلى اسطمبول فترة ما لبث أن عاد بعدها إلى زغرتا حيث مات ودفن.
لم تكن الشخصية السياسية والعسكرية حدثاً عارضاً في حياة جده وانتهى. فقد كان وراء تلك الشخصية فكر خلاق ترك مذكرات تاريخية قيمة باللغة العامية. أما مصر تلك المذكرات فمنوط بورثة يوسف ابراهيم يزبك الذي أخذ على عاتقه مراجعتها وصياغتها من جديد وتركت بين أوراقه!
هذه المراجعة لشخصية الجد ضرورية لمعرفة التأثير الأول في تكوين شخصية جواد بولس إبن سمعان بولس وكتور سليمان باشا وشقيق فريد وإدمون وسليمان وحسنا.
لقد ترك الجد بصماته بوضوح على الطفل جواد وكان مقرراً أن يهيئه لتسلم القيادة العسكرية والسياسية من بعده فكان يدفعه إلى ممارسة ركوب الخيل وضروب الفروسية المعروفة في ذلك الحين. إلا أن جواد بولس كان معداً لدور آخر مختلف عن تقاليد تلك البقعة من لبنان وإن يكن ورث عن الجد تلك القسمات الصارمة التي أقرب ما تكون إلى الشخصية العسكرية وذلك الطبع الصلب المستقيم الذي لا يهادن في الحق والحرية والكرامة.
لقد تحولت الخصال العسكرية في التصرف إلى خصال معنوية في لحفد وتركت اثرها الظاهر في شخصيته الصارمة جوهراً ومظهراً. كما أنها بطبيعتها المتقشفة الزاهدة جعلته يعرض عن أمور الدنيا اليومية ليعيش عيشة الرهبان الذين نذروا أنفسهم لقضية التبشير بالرب فيما هو نذر نفسه لقضية التبشير بلبنان. تلك الشخصية التي جعلت البطريرك السابق المعوشي يسر إلى جلسائه، وكان بينهم المؤرخ بولس: “لو لم أكن بطريركاً لانتخبت جواد بولس مكاني”.
هذا الإحترام الكبير من رجال الدين والدنيا فرضته مسلكية الرجل في حياته، تلك المسلكية التي شرفت السياسة التي خاضها في مطلع حياته وتركها غير آسف بعد أن إكتشف أنها لا تروي غليله إلى المعرفة السياسية الكبرى في التاريخ. فكان أن إنصرف إلى محراب التاريخ منذ السنة ١٩٤٥.
جواد بولس الطالب
ولكن قبل أن تخوض في تخوله عن السياسة وانصرافه إلى التأليف في التاريخ، لا بد من القاء مزيد من الأضواء على نشأته الأكاديمية بدءًا من مدرسة مار يوسف في زغرتا حيث تلقى دروسه الأولى قبل أن ينتقل إلى مدرسة عينطورا في عينطورا القريبة من جونيه. لقد مكث فيها ثلاث سنوات وثلاثة أشهر قبل أن تقفل ابوابها في كانون الأول سنة ١٩١٤ مع إندلاع الحرب العالمية الأولى. لقد إضطر والده بسبب إغلاق المدرسة إلى تعيين أستاذ خاص له علمه طوال فترة الحرب. وكان جده يتابع مسيرته الدراسية باهتمام بالغ، لأنه كان يتوسم فيه دوراً غير عادي. فكان يجزي المعلم ليدفعه إلى مزيد إهتمام بحفيده، وكان يحمل الكتب من مكتبات الكهنة والأديار في الشمال ليوفرها لحفيده النهم إلى العلم والمطالعة. ويروى أنه مرة أحضر له جده كيس كتب من كفرحورا من مكتبة العلامة الخوري ورد وألح عليه أن يقرأ كتاب “بوسيط” فطالعه وتبين له فيما بعد أن “بوسيط” لم يكن غير بوسوييه (Boussuet)
الحرب العالمية الأولى التي انعكست آثارها جوعاً وموتاً لم تؤثر في حياة الصبي اليافع لأن أهله كانوا في بحبوحة. إلا أنها انعكست عليه جوعاً من نوع آخر، جوعاً إلى المعرفة لا يرتوي
وبالرغم من محاولات جده لتعليمه شيئاً من فروسية تلك الأيام عندما أهداه فرساً أصيلة ليمارس هواية ركوب الخيل وقال له: “يا ابني الاهدني والماروني عليه أن يكون فارساً “، فإنه بقي بعيداً عن ساحاتها وإن يكن نفذ رغبة جده في أوقات فراغه ومن باب التسلية بعد إرهاق الدرس. ما كادت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها حتى ذهب الشعب جواد إلى بيروت ليلتحق بمعهد الحقوق الفرنسي فيها. ولما كانت الجامعة قد اشترطت على الذين لم يتمكنوا من إنهاء دراستهم الثانوية بانتظام بسبب الإنقطاع الذي فرضته الحرب، أن يقدم امتحاناً بعد سنة اعدادية، فقد حمل الشعب المتحمس مواد السنة الإعدادية إلى بلدته وأمضى الصيف في قراءتها وقدم إمتحاناً ناجحاً خوله الدخول إلى الجامعة المذكورة في السنة ١٩١٩
وبما أن إجازة الحقوق لم تكن تستغرق أكثر من ثلاث سنوات في تلك الأيام فقد اجتازها الطالب الشاب بنجاح ملحوظ ونال على اثرها إجازة في الحقوق أهلته الدخول في عالم المحاماة
جواد بولس المحامي
سنة تخرجه ١٩٢٢ بدأ جواد بولس يمارس فترة تدرجه في مكتب الرئيس اميل اده إلى جانب الشيخ بشارة الخوري. ومنذ ذلك الحين بدأت بينه وبين الرئس اده علاقة صداقة متينة وإعجاب متبادل لم تبدله الأيام. فيوم قوطع الرئس اميل اده مقاطعة سياسية اثر موقف سياسي له، ولم يكن أحد يتجرأ على زيارته، ظل جواد بولس على وفائه رغم كل المخاطر وكان يقطع المسافة جهراً إلى بيت الرجل الذي فتح له مكتبه وقلبه وعقله غير عابئ بالسياسة وأهلها!
ومن ثم إنتقل إلى طرابلس ليفتح مكتباً خاصاً به وليقيم فيها. واذا بالدعاوى تنهمر عليه من طرابلس واللاذقية وبيروت بعد أن لمع نجمه كمرجع في القانون واشتهر بأخلاقية نادرة ومصداقية في القول والفعل. لقد كان يمارس المهنة بروح رسولية فلم يكن يتلقى أجراً ممن عرف أنه بحاجة إلى رفع ظلم عنه. ولم يتبنى الدعاوى إلا التي يراها محقة. فكان مثار إعجاب زملائه الذين انتخبوه نقيباً لهم في الشمال مرتين قبل أن ينتقل إلى الحكم، المرة الأولى (١٩٣٢ – ١٩٣٤) والمرة الثانية (١٩٣٨ – ١٩٤٠). وظل مكتبه مفتوحاً إلى اواخر الخمسينات حيث سلامة إلى إبن أخيه المحامي سيمون بولس
جواد بولس الزوج
في مطلع حياته العملية في المحاماة (١٩٢٢) تزوج جواد بولس من انجيل أنطون صوايا المقيمة في الإسكندرية والطرابلسية الأصل. وقد تعرف عليها خلال صيف ترددت فيه مع أهلها إلى لبنان وكان “نصيب” لم يعمر طويلاً لأنها ماتت في تموز من السنة ١٩٥٨ دون أن يرزق منها بنيناً. وفي السنة ١٩٦٨ تزوج من ليندا سوسه أرملة الكونت دو صعب وهي من المهاجرين اللبنانيين إلى مصر
جواد بولس السياسي
بحكم موقع عائلته السياسي ومسؤليات جده أسعد قدوة حياته والذي ورث عنه الحب والنزاهة والوفاء، فقد كان مقدراً له أن يستلم زمام القيادة السياسية في عائلته خصوصاً وقد اختاره جده منذ طفولته وصباه لهذه المسؤلية بحكمة بعد أن لمح فيه بوادر النبوغ والجد والإستقامة. وقد حفظ لجده هذه الثقة وهذا الحب مدى الحياة فكان يفاخر بأنه “حفيد أسعد بولس، البطل والقيدس، وصديق يوسف بك كرم، وباني الزعامة”. وما يزال يحتفظ بعدته العسكرية الشخصية ويزين بها جدران بيته
قبل أن يتسلم زعامة العائلة، وزغرتا عائلات، كانت الزعامة معقودة لعمه ميشال، لأن والده كان ضابط في الدرك. إلا أن المقاليد سرعان ما اسندت إليه بعد أن لمع نجمه كصديق لإميل اده وبشارة الخوري وللفرنسيين الذين وثقوا فيه كما لم يثقوا بأي سياسي آخر
صحيح أن الزعامة السياسية آلت إليه بالوراثة إلا أنه استحقها عن جدارة منذ اطلالته الأولى من مكتب اميل اده والصداقات التي اكتسبها بحكم تعاطيه في بيروت ومن ثم في طرابلس، هذا التعاطي الذي ترك إنطباعاً لا يمحى من كل الذين عرفوه
كان من الممكن أن يغرق جواد بولس في عصبيات محيطه إلا أنه كان يسعى بكل تصرفاته إلى نبذها بالإحتكام إلى روح الضمير والقانون. فاستحق لهذا المسلك اعجاب مواطنيه. لقد حاول بكل ما أوتي من حكمة أن يقتلع جذور الثأر والعنف بادئاً بالأقربين فأبعد شقيقه سليمان إلى المكسيك خشية أن يعلق في مشادات التحدي! فكسب الرهان، وبقيت عائلته الوحيدة، بفضل سلوكه وحكمته، بعيدة عن أجواء التحديات
وحده بين أبناء بلدته كان يعرف “بالأستاذ”. وقد حافظ على المسافة بينه وبين غيره من دون أن يجرح هذا الغير. فقد كان يحترم كل إنسان ولو كان من غير رأيه أو سياسته، فاكتسب إحترام الجميع
لعله كان مرشحاً ليلعب دوراً حزبياً كبيراً في الكتلة الوطنية التي ألفها صديقه اميل اده لولا أن روح لعائلة كانت في صميم كل فرد زغرتاوي
عين جواد بولس في المجلس النيابي يوم كان المجلس تعيناً لا إنتخاباً السنة ١٩٣٧ – ١٩٣٩
وفي ١٨ آذار من السنة ١٩٤٣ أصدر المندوب السامي أو المندوب العام المفوض لفرنسا المحاربة في الشرق قراراً قضى بتعيين الدكتور أيوب ثابت رئيساً للدولة وجواد بولس وزيراً للخارجية والأشغال العامة والصحة إلى جانب الأمير خالد شهاب الذي اسندت إليه حقائب أخرى
وفوض إلى هذه الحكومة كل السلطات التنفيذية وتشريعية لأنه لم يكن هناك من مجلس نيابي
وأناط بالحكومة هذه مهمة اعادة الدستور واجراء انتخابات نيابية عامة على ان تكون هذه الانتخابات تمهيداً لمرحلة الاستقلال
ورغم أن الإنسجام كان مطلقاً بين أعضائها وخصوصاً لما يتمتعون به من علم ونزاهة ووطنية إلى درجة أنها لم تكن تعقد ما صرنا نعرفه بالمجلس الوزاري، بل “كان كل وزير يقرر ويرسل قراره إلى رئيس الدولة للتوقيع. كم مرتب الوزير يومها زاهداً ٤٠٠ أو ٥٠٠ ليرة شهرياً و ٢٠٠ ليرة مصاريف بنزين. أيوب ثابت كان يقبض عشرين الفن كل شهر في ذلك الحين”. “لم تكن الدولة قد هيئت ولم تكن موازنتها بالشيء الذي يذكر”
يقول جواد بولس: “في تلك المرحلة نظمت العمل في وزاراتي وأعطيت المدير صلاحيات واسعة باعتبار أن مسؤلية الوزير هي محصورة بالتخطيط والتوجيه والمراقبة”
لم تكد الحكوة تشرع بتشريع قانون الإنتخابات “حتى وقع خلاف على توزيع المقاعد بين المسيحيين والمسلمين. كم مجلس النواب، حسب المشروع، مؤلفاً من ٥٥ نائباً. ٣٢ للمسيحيين و ٢٣ للمسلمين. فقمنا بإحصاء رسمي ووزعت المقاعد النيابية بنسبة السكان. وما تزال ملفات هذا المشروع في محفوظات وزارة الخارجية. ومع أن الأمير خالد شهاب وافقني على هذا التوزيع القانوني، فقد إنفجر الشارع الإسلامي يومها في وجه المشروع وعلت المطالبة بتعديله. فكان جوابي وجواب الحكومة اننا مستعدون للتعديل إذا وجدنا خطأ قانونياً في الأمر أو في الأرقام لأن مشروعنا مستمد من إحصاءات رسمية دقيقة. وأثر أخذ ورد جرت تسوية بين الجنرال كاترو والنحاس باشا في القاهرة قضت بإعادة توزيع المقاعد ٢٥ للمسلمين و ٣٠ مقعداً للمسيحيين. عندها رفضت الحكومة الإذعان لهذا الإحتكام الكيفي فاستقالت وأقيلت”
خاض جواد بولس الإنتخابات النيابية في دورة ١٩٤٣ ومعه راشد المقدم على لائحة اميل اده مقابل بشارة الخوري وعلى رأسها حميد فرنجية وعبد الحميد كرامي. إلا أنه قبيل أسبوع من إجراء الإنتخابات عمد الإنكليز إلى تلفيق تهمة وجود حشيشة عند راشد المقدم ليفرطوا عقد اللائحة التي يرئسها جواد بولس. وما تزال محفوظات وزارة الخارجية الفرنسية تحتفظ بمعلومات مفصلة عن التدخل والرشوة في تلك الإنتخابات التي خسرها جواد بولس
خسر جواد بس معركة لإنتخابات واشاح عن عرض الجنرال سبيرس المشروط للرئاسة ونجح حميد فرنجية وانتخب نصير السياسة الإنكليزية بشارة الخوري رئيساً لدولة – الإستقلال وكاد حميد فرنجية يكون بعده وسقط ظل الإنتداب الفرنسي. وترك جواد بولس السياسة لأهلها، وذهب إلى التاريخ باعتباره أصدق السياسيين
وعادت الأيام لتؤكد الرهان الذي عقده جواد بولس على مصداقية السياسة الفرنسية وخطأ السياسة الإنكليزية العروبية فقد كان يقول عند إندلاع أحداث لبنان في مطلع ١٩٧٥: ” كنا على حق مع الرئيس اميل اده، وكان حميد فرنجية وبشارة الخوري على خطأ. الإستقلال ليس كلمات بل هو عمل وإمكان بقاء”
جواد بولس مرشح الرئاسة الدائم
في السنة ١٩٥٨ وقبل ايام من إنتخابات الرئاسة الأولى ابرق إليه الدكتور شارل مالك مهنئاً إلا أن التهنئة لم تتم فصولها لأن إنقلاب العراق أطاح بمجيء مدني على رأس الحكم فتولى الرئاسة يومها فؤاد شهاب
وفي الإنتخابات الرئاسية التالية تكرر إسمه كمرشح إجماع من قبل صديقيه ريمون اده وكمال جنبلاط. إلا أن ترفعه عن السعي إليها جعله بعيداً عن المرمى
حتى أن فؤاد شهاب حاول أن يستعين “بآدمية” جواد بولس فأرسل إله صديقهما رينيه عجوري رئيس تحرير “لوريان” فلم يفلح في إقناعه بحقيبة الخارجية لأنه إشترط رسم سياستها لا الرئيس
جواد بولس الأكاديمي
جواد بولس عضو في الأكاديمية الفنزويلية للتاريخ منذ السنة ١٩٦٧. وهو رئيس الأكاديمية اللبنانية التي تأسست قبيل الحرب وانقطعت نشاطاتها منذ ذلك الحين بسبب الأحداث. وقد تألفت من: الدكتور فؤاد افرام البستاني والدكتر شارل مالك، وعمر أبو ريشة، وعبدالله العلايلي، وسعيد عقل، ثم ضمت إليها: جورج شحادة، والدكتور عادل إسماعيل، والدكتور جورج فواز والشيخ نديم الجسر (توفي خلال الأحداث)، وسيمون عواد كسكرتير لها
جواد بولس المؤرخ
منذ أن طلق جواد بولس السياسة (١٩٤٥) ترهب للعمل التاريخي فجاءت موسوعته “تاريخ شعوب الشرق الأدنى وحضارته” لتؤكد على موضوعيته ونظرته المجردة من الأحكام. فما حدا بالمؤرخ أرنولد توينبي بعد قراءته لأول جزء منها (وهي تقع في خمسة أجزاء ٢١١٠ صفحات، وقد صدرت تباعاً بين ١٩٦١ – ١٩٦٨) إلى تقديم الأعلام بكلمة هي الوحيدة التي قدم بها أثراً تاريخياً، وقد جاء فيها: “يتفرد مصنف الأستاذ جواد بولس في تاريخ آسيا الغربية بخصائص جعلته يساهم في بيان معرفتنا في ذلك الموضوع مساهمة بالغة النفاسة
فأولى تلك الخصائص إن الأستاذ بولس نفسه سليل تلك البقعة التي يجلو تاريخها، وكان الفضل في معظم التآليف الحديثة في تاريخ آسيا الغربية، إلى الآن لمؤلفين اوروبيين أو اميركيين، حتى صدر آخر الأمر تاريخ دبجته براعة علامة موطنه لبنان، باب هذه المنطقة التي هي في الصميم من العالم المتحضر
وثانيتها أن الأستاذ بولس تناول موضوعه بنظرة شاملة على رحابة أطرافه، فقدم لنا سجلاً لتاريخ آسيا الغربية من قبل أن ينتظمها التاريخ حتى اليوم
وثالثتهما أن هذا المؤرخ الغربي – آسيوي ما فتئ يقظاً إلى ظاهرة التتابع المستمر التي يعرضها تاريخ هذا القطر من العالم، فبسطها، ولمس، في الوقت ذاته، العناصر الدائمة في المشهد التاريخي، كما أبرز وجود عوامل ثابتة جغرافية كانت أو نفسية تتوثق فيما بينها من خلال جميع مظاهر التغييرات الطافية على صفحة الحياة
وإن تراث شعوب اللغة العربية، في مذهب الأستاذ بولس، لهو التحقيق الكامل للحضارة في هذه البقعة ذاتها حيث انبثقت الحضارة أول ما انبثقت
لهذا سيجد القراء العرب، شأنهم في ذلك شأن القراء الغربيين، في دراسة هذا المصنف الكثير مما يعوزهم علمه
أرنولد توينبي ١٣
نوار ١٩٥٧”
وعلى أثر صدور الجزء الأول من موسوعته الفرنسية أهدى المؤرخ جواد بولس نسخة منها إلى الرئيس شارل دوغول الذي عرفه عن كثب يوم كان في لبنان. فتلقى منه بعد ذلك رسالة، هذا نصها
“الجنرال دوغول
باريس ١٨ تشرين أول السنة ١٩٦١
سيدي الوزير
هذا الجزء الأول من “تاريخ شعوب الشرق الأدنى وحضارته” أتاح لتقدير أهمية العمل الذي كرست نفسك من أجله
وإني لقادر كون هذا المنصف، الذي سيلقى رواجاً كبيراً، قد كتب باللغة الفرنسية
وإني فيما اتمنى لك النجاح، أشكرك على تقدمتك التي أثرت في عباراتها
تفضل، سيدي الوزير، بقبول عواطف التقدير الرفيع.
شارل دوغول“
ثم أصدر جواد بولس كتاباً عن تاريخ لبنان (١٩٦٩) بعنوان لبنان والبلدان المجاورة أعيد طبعه سنة (١٩٧٣)، وهو تاريخ مقارن للبنان وسورية وفلسطين منذ الأوصول حتى اليوم، قبل أن يصدر كتابه الأخير قبيل وفاته بأسبوعين وأثر نوبة قلبية: “التحولات الأخيرة في تاريخ الشرق الأدنى منذ الإسلام” والذي أطلق فيه نظرية جديدة تقول بتأثير الجغرافيا النسبي لا المطلق كما كان يعرفها أرنولد توينبي. وأعطى على ذلك اثني عشر تحولاً شهدها تاريخ الشرق الادنى منذ الاسلام حتى ١٩١٨. وكانت هذه التحولات بفعل تدخل حدث او شخصية تاريخية على المسرح التاريخي
وفي كل مؤلفاته لم يحد جواد بولس عن نظريته الثابتة التي تقول بأن لبنان مميز بوجهه الطبيعي من وجوه جارته، لذا فشعبه مميز بتركيبه الروحي والإجتماعي من الشعوب المجاورة له. وحتى تاريخه من وجوه كثيرة هو غير تاريخها. فالشخصية السورية التي تعتبر الأقرب إلى الشخصية اللبنانية نجدها مختلفة عنها باختلاف البيئة الجغرافية في البلدين، الجبل والبحر في لبنان، والواحات والصحراء في سورية. مما يستتبع طبع السكان بطابع مختلف رغم الإلتصاق الجغرافي. فالمناخ جبلي وبحري في لبنان، وصحراوي بري في سورية. ويفصل بين هذين المناخين أسوار عالية هي جبال لبنان والسلسلة الشرقية التي تشكل سداً منيعاً بين الصحراء والبحر
“إن تاريخ البلدين سورية ولبنان، منذ آلاف السنين، يؤكد هذه الحقائق الرهينة: ذهنية ونفسانية برية، قارية وصحراوية في سورية فيما هي جبلية، بحرية متوسطية في لبنان”. تبقى الروح المفعمة بالإيمان التي خرج بها جواد بولس في نهاية كتابه الأخير عندما قال: “يثبت لنا التاريخ أن المجد للخالق وحده وله وحده الدوام. أين الدول والممالك الكبيرة والسلطنات العظيمة التي كان مؤسسوها يعتقدون أنها ستدوم إلى الأبد؟ لقد بدأت تتفتت، وتتفكك، كما رأينا عقب وفاة مؤسسيها، وفي غالب الأحيان، في حياة هؤلاء المؤسسين الذين كانوا يعتقدون أنهم أيضاً لن يموتوا فيتصرفون وكأنهم خالدون على الدهر
باطل الأباطيل، كل كائن حي سائر نحو الزوال: له فتوته وشباب وكهولته وشيخوخته وموته، وفي كثير من الأحيان، يموت قبل أن يشيخ”
امبراطوريات القوة زالت، وبقي لبنان الستة آلاف سنة أقوى من الموت لأنه في قرارة جواد بولس التاريخية: “الحلف الثابت بين الجبل والبحر، الجبل الذي يمنح أبناءه نعمة الإستقلال فينشط فيهم هذه الرغبة، والبحر نعمة الإنفتاح في تعاطٍ فكري واقتصادي وعلمي مع العالم الأوسع”. صدر عن اللجنة التأسيسية ل”مؤسسة جواد بولس” بمناسبة المؤتمر الصحافي الإعلاني عن انشائها الجمعة ١٨ شباط ١٩٨٣