الندوة اللبنانية                                          19 كانون الثاني 1965 بيروت

——

حديث الندوة

=======

خلاصة محاضرة الاستاذ جواد بولس

الموضوع : التراث اللبناني : اكتناز وابداع

ايها المستمعون الاحباء،

“الشعوب التي لا تاريخ لها تموت من البرد”. هكذا يقولون، وهكذا راح الاستاذ جواد بولس، محاضرة الندوة، امس ينسج في محاضرة عنوانها ” التراث اللبناني : اكتناز وابداع ” خيوط التاريخ رداء، بل عافية، يلف بها جسم لبنان.

امام جمع ضم نخبة عديدة من مفكري بلدنا وقادة الرأي فيه، استهل مؤلف: شعوب ومدنيات الشرق الادنى” محاضرته بالسؤال التالي

علام تدل كلمة تراث ؟

تتفق المعاجم على “الخيرات المتوارثة عن السلف” معنى حقيقيا لكلمة تراث. وهو كذلك ما اعتبر ميراثا مشتركا … وما يخلفه او يتركه او ينقله جيل سالف الى الاجيال اللاحقة”. وفي معناه الرمزي يكون التراث عائليا، اقليميا او طنيا: على هذا الصعيد يؤلف، مع الارض وسكانها، الوطن. وثمة آثار انسانية عظمى تؤلف، على الصعيد العام، تراثا مشتركا بين جميع الامم. فاذا كان التراث الاثيل مدعاة اعتزاز فإن عراقة التراث اللبناني تخولنا هذا الاعتزاز. ذاك ان فينيقيا كانت، مع مصر والعراق، احد ثلاثة بلدان كونت مهد الحضارات التاريخية الاولى. حتى ان اليونان، أم الحضارتي الهلينية والغربية، تعترف بتركة بابلية فينيقية مصرية في تراثها الثقافي. هذا، لا سيما وان الحضارة الغربية، في اوائلها، حوالي منتصف الالف الثالث ق.م، اصيبت بانتكاسات عدة زجت بها في البربرية، فاذا بالمساهمة الفينيقية تنتشلها من كبوتها في النصف الاول من الالف سنة الاولى ق.م. كما عادت فانتشلتها المساهمة العربية في النصف الثاني للالف السنة الاولى بعد المسيح. فاذا هب الشرق الادنى الحديث الى الانتهال اليوم من تراث الغرب الثقافي، فانما هو يستر دينا قديما له على هذا الغرب. وقبل الخوض في تفاصيل وجودنا عبر التاريخ، يقوم المحاضر بايضاح سؤالين تمهيديين: اولا اذا كانت فينيقيا هي هذه – مهد حضارة ومبتكرة ابجدية -، فما هي الصلة التي تشدنا، عن اللبنانيين، الى الفينيقيين ؟ هل لبنانيو اليوم هم حفدة فينيقيي الامس، أم أن هؤلاء ليسو سوى عنصر انقرض ولا تربطنا به رابطة.

جواب الحاضر انه يمكن التعرف الى رابطة القربى العنصرية – التي قد يمكن اثباتها بين جماعة وجماعة كما قد يستحيل ذلك بين شعب واخر في مدى زمني طويل – يمكن التعرف الى رابطة القربى العنصرية اذا تشابهت او تقاربت عقلية الحاضر ومميزاته النفسانية من عقلية ومميزات الاجيال التي تقدمته في الاطار الجغرافي نفسه. فالجغرافيا تصنع العنصريات وتهدمها . من هنا كان استمرار الروح الشعبي مرتبطا باستمرار الاطار الجغرافي. واما ما يتغير في الشعب، على مر العصور، فانما هو الصفات المكتسبة العابرة كاللغة والدين، النظم والعادات والعرف الخ … وبالتالي كان التراث اللبناني هو الارث المشترك بين جميع الاجيال التي تعاقبت في لبنان منذ فجر وجوده. والتي تكونت صفاتها النفسانية والمعنوية بفعل توالت في لبنان والتي ترقى جذورها الى الاحقاب الفينيقية، والكنعانية، وما قبل التاريخ .

السؤال الثاني لماذا انقطعت فينيقيا، في فترة ما، عن الاستمرار في هذه السيرة الحضارية المشرقة ؟

سبب ذلك عائد الى الحرب وفقدان الحرية والسيطرة الاجنبية. فالاستقلال السياسي والازدهار الاقتصادي، ركيزتا الثقافة القومية، قد افتقدتهما فينيقيا – بعد بابل ومصر حوالي منتصف القرن الرابع ق. م- عندما دمر اسكندر المكدوني صور عام 332 ق.م .

بعد هذا الايضاح يتعرض المحاضر للتراث اللبناني فيرى انه يتوزع على ميادين عدة : الجغرافي، الاقتصادي، السياسي والعسكري والديني والثقافي والفني، الخ … فيقتصر منها على لمحة خاطفة.

حجر الزاوية في بنائنا التراثي يقول هو البيئة الجغرافية . فهي تركة وعامل ابداع معاد. وهي التي تميزنا – فيزيقيا ونفسانيا – عن الشعوب المتوسطية. وان هذا الجبل الشامخ قبالة البحر لهو ذو مصير متوسطي ابرزه وقوعه على مفترق عالمي يؤدي الى قارات العالم القديم الثلاث. فالجبل مصدر حس مرهف بالحرية، والبحر مدعاة الى الانفتاح على السوى وهذه الميزات انما هي ميزات كنعانية وفينيقية ولبنانية.

من الميدان الاقتصادي نستأثر بنشاطين : الحراثة والتجارة البحرية. ولسنا لنعرف الا جيدا تاريخ الفينيقيين في هذين المضمارين، الى جانب مهارتهم في صناعة البواخر ودربتهم في فن البناء والاكتشاف والاتجار بحرا وبرا. وكذلك هم لبنانيو اليوم: تجار تحت كل سماء .

اما الميدان الثقافي، فأبرز ما فيه ابتكار الابجدية في جبيل حوالي منتصف الالف الثاني ق. م وبعد ثلاثة او اربعة اجيال من المحاولات والتجارب بالابجدية ستعيض عن الكتابة البكتوغرافية، وعمادها الصور، بالكتابة الافبائية وقوامها الاصوات.

ولا تقوم الثورة الالفبائية في التقدم الفكري الذي اتاحته بمقدار ما تقوم في التفكير بالمعضلة الابجدية نفسها وحلها على هذا النحو التجريدي . مثل هذا العمل كان جديدا حقا على الفكر البشري في ذلك العهد . وهكذا لم يطل الزمن حتى ظهر أول كتاب – وهو أبو الكتب – في جبيل فأطلق عليها اليونانيون إسم بيبلوس، أي “حاضرة الكتاب”.

“لم يسهم شعب، يقول ماسون – اورسيل، قبل الرومان، بمقدار ما أسهم الفينيقيون في مقاسمة غربي أوربا الثقافة المتوسطية… إن فينيقيا قد فعلت أكثر مما يظن في التمهيد للفلسفة الهلينية. “وتشهد نصوص رأس شمرا المكتشفة عام ١٩٢٩، بشاعرية أصلا تميز سكان حضارة أوغاريث الفينيقية ويشابه وحيها وحي بعض نصوص التوراء، لا سيما ما تعلق منها يذكر أسماء الأمكنة. وفي مجال العلم، يذكر المحاضر الفيلسوف الفينيقي موموس فيرد إليه الحدث الذرى الذي هو في أصل النظرية الذرية الحديثة. وفي الميدان الديني، يعترف المستشرقون للدين الفينيقي بقيمة أخلاقية كبرى. فهو يقول بخلود النفس، بفاعلية الصلاة وعدم تعرضها للغير بالأذى، إلى التبشير بالعدالة. وعلى غرار لبنان اليوم، إنقسم الفينيقيون في العبادة. تم عبد الإله بعل والقسم الآخر أيل بينما لم يكن للملك أن يتدخل في الشأن السياسي. من هنا يمكن القول أنهم خلقوا، لثلاثة آلاف وخمسمئة سنة خلت دولة عملانية. وكان تعدد الطوائف في هذا البلد تركيباً عضوياً فيه، أن تم عن شيء فإنما عن روح التسامح الذي ميزه عبر العصور.

ثم يأتي المحاضر، عبر الحقبة اليونانية الرومانية وتقلباتها على أسماء شهيرة وأبناء صور أمثال مكسيموس، معلم الإمبراطور مارك اوريل، وبورفير ومارينوس، كذلك يذكر في ظل العهد العباسي الإمام الأذاعي وقسطا بن لوقا.

ولم يتنازل لبنان – عبر ظلام الأعصر الوسيطة – عن صفته مؤتمنا على الخميرة الفكرية. فما كاد الظلام ينقشع، في مطلع عصر النهضة، حتى استأنف نشاطه، تساعده الإرساليات، وعاد همزة وعمل بين الغرب والعالم الشرقي. هذا الدور، ما زال يقوم به حتى اليوم. وها هي بيروت تشهد ثماره الفكرية والفنية والإجتماعية، كما تشهد جهداً مستمراً في سبيل احيائه وتنشيطه. في هذا المجال، يسطرد المحاضر، يسرني أن أذكر الدور الذي تضطلع به الندوة اللبنانية فهي ستنشئ عامة قريب لجاناها الثقافية فتعنى احداها، بالتراث اللبناني، هذا كما أنها قد ارتبطت بصلات تعاون وثيقة مع جامعة اللبنانيين في العالم، وسوف تصدر مجلة “الشهر اللبناني” بأربع لغات على حدة تكون كلمة لبنان الثقافي إلى العالم.

أخيراً يخلص المحاضر إلى كلمة ثقة بلبنان الحاضر، على ضوء معطيات الأمر السحيق متأملاً خيراً بمستقبل يستوحي التاريخ والثقة بالنفس والطموح إلى غد زاهر.

وإلى اللقاء أيها المستمعون الأحباء مع الندوة نهار الثلاثاء القادم.

ميشال أسمر

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *