بلدان المشرق العربي منذ الإسلام

موجز تاريخي مقارن

  • المنعطف التاريخي الرابع

دولة الخلفاء الفاطميين، عاصمتها القاهرة، دولة إسلامية شيعية، تقضي على دولة الأتراك الإخشيديين، المسلمين السنيين، وتحل محلها بالحكم في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان (٩٦٩ – ١١٧١)


١.عبيد الله المهدي، عربي من المشرق، مؤسس الخلافة الفاطمية وسلالة الخلفاء الفاطميين في أفريقيا الشمالية . عاصمته المهدية (٩١٠٩٣٤)

إن مؤسس الخلافة الفاطمية وسلالة الخلفاء الفاطميين ، في أفريقيا الشمالية ، هو عبيد بن محمد الحبيب ، عربي من المشرق، أصبح، بعد استيلائه على الحكم في أفريقيا ، سنة ٩١٠ ، عبيد الله المهدي وأمير المؤمنين (٩١٠-٩٤٣) . ويتحدر عبيد الله المهدي من سلالة الإمام علي بن ابي طالب وفاطمة بنت النبي، عن طريق إسماعيل جعفر الصادق (٧٠٠-٧٦٥) ، آخر إمام  شيعي وسليل علي وفاطمة . من هنا إسم “الفاطميين”.

جاء عبيد الله من بلدة سلمية ، الواقعة إلى الجنوب الشرقي من حماة ، في سوريا الشمالية هرباً من مطاردة عمال العباسيين. فلجأ إلى أفريقيا الشمالية، حيث أمن له وباسمه السيادة الدينية والسياسة مبشر من قبله، هو أبو عبد الله الحسين الشيعي، من أهل اليمن، الذي حمل البرابرة المنتسبين إلى قبيلة قطامه، في أفريقيا الشمالية ،على تأييد عبيد الله وإزالة سيطرة الأغلبيين في المغرب.

وفي سنة ٩١٠ ، حل عبيد الله محل الأغلبيين في الحكم . وإتخذ لقب “المهدي” و “أمير المؤمنين”، فأسس مدينة المهدية ، في تونس (٩١٦) ، وركز فيها سنة ٩٢٦ . وبصفته أمير المؤمنين ، يظهر عبيد الله  المهدي كمنافس  للخليفة العباسي في بغداد الذي يعتبره الفاطميون كمغتصب، لأن الحكم يجب أن يعود إلى المتحدرين من السلالة النبوية .

لذلك فإن وجود الفاطميين في الغرب هو ، بنظرهم ، مرحلة نحو السيطرة على أنحاء العالم الإسلامي كافة ، فيكونوا جيشاً قوياً  لفتح بلدان المشرق.

٢.الفاطميون، افريقيون مسلمون شيعيون، باسم خليفة أصل عربي مشرقي، يحتلون مصر، فينتزعون الحكم من الاتراك الأخشيديين المسلمين السنيين (٩٦٩(

في سنة ٩٦٩ ،  في عهد  الخليفة الفاطمي “المعز لدين الله” ( ٩٣١ – ٩٧٥ )، جاء جيش فاطمي من أفريقيا الشمالية وإحتل دلتا النيل. وكان هذا الجيش مؤلفاً من مرتزقة من البربر واليونان الأرمن والاكراد والاتراك والزنوج ، بقيادة القائد الشهير جوهر (٩٢٢) ، صقلي الأصل إعتنق الإسلام . فإستسلم الأتراك الاخشيديون ، المسلمون السنيون ، دون مقاومة ، لأسياد مصر الجدد ، المسلمين الفاطميين ، الذين هم فرع من المسلمين الشيعيين.

٣.ثابتة تاريخية:

الفاطميون، أسياد مصر، يسارعون لإحتلال فلسطين ولبنان و سوريا (٩٦٩)

وفي ذات السنة (٩٦٩) ،   واذعاناً للثابتة التاريخية المصرية – العراقية ، التي عرضناها في المنعطف الثالث، والتي تدفع دوماً مصر والعراق ، كلاً من جهته ، للإستيلاء على الممر السوري – الفلسطيني الذي يجمع بينهما ، قام القائد جوهر بإخضاع  فلسطين والشواطئ اللبنانية ودمشق . وفي حلب ، فإن أميرها الحمداني إعترف بسيادة الفاطميين فظل مستقلاً  في امارته .

يقول المؤرخ الفرنسي ويات: “أدرك الفاطميون بالغريزة أن مصر المستقلة يجب أن تكون حدودها بعيدة في سوريا: وهو إدراك كانت أصوله في التاريخ الإسلامي باسم طولون وصلاح الدين وسلاطين المماليك، ولا يمكن إعتباره إدعاءً طائشاً لا روية فيه”.

ويقول المؤرخ والمشترق الفرنسي ادمومبين: “ان السيطرة الفاطمية على سوريا، ولو انها لم تكن ابداً مؤكدة ولا ناجزة وشاملة، الا انها كانت من الامور المنطقية، بحيث انها ستدوم بقدر ما تدوم الاسرة الفاطمية نفسها”.

ويقول مؤرخ آخر “ان كل دولة قامت في بلاد دجلة والفرات ونزعت الى التوسع، كانت مضطرة، بحكم مركزها الجغرافي، لأن تحاول الوصول الى البحر المتوسط. وإن الحاجة ذاتها كانت تحرك كل دولة طموحة قامت في وادي النيل. إن الشاطئ الفينيقي (اللبناني اليوم)، وكذلك المناطق والبلدان المجاورة له (سوريا وفلسطين)، كانت مهيأة سلفاً، نظراً لمركزها الجغرافي، لأن تصبح موضوع خلاف ما بين العراق ومصر. هكذا كان الحال، ليس فقط في العصور القديمة. بل أيضاً في العهد اليوناني. كما في عصر نابوليون الأول وفي زمن قريب”.

٤. إنتقال الخليفة الفاطمي ومقر الخلافة الفاطمية من أفريقيا الشمالية إلى عاصمة جديدة: “القاهرة”، في مصر (٩٧٣)

وفي سنة ٩٧٣، أي بعد أربع سنوات من إحتلال الجيش الفاطمي لمصر، ترك الخليفة الفاطمي، عاصمته “المهدية”، في أفريقيا الشمالية (تونس)، واتجه نحو مصر، إلى عاصمته الجديدة، التي أسسها القائد جوهر والتي سميت “القاهرة”، أي “المنتصرة”. فاتخذها مقراً له ومركزاً للخلافة الفاطمية. وكان جوار قد أنها، في القاهرة، بناء المسجد الجامعي المعروف ب”الأزهر”، مع القصر العاهل الجديد.

٥. ثابتة تاريخية مصرية – عراقية: التنافس بين الخلافة الفاطمية الشيعية في القاهرة والخلافة العباسية السنية في بغداد.

إن إنتقال مركز الخليفة والخلافة الفاطمية من المهدية، في أفريقيا الشمالية، إلى القاهرة، في مصر، يشكل منعطفاً جديداً وكبيراً في تاريخ الشرق الإسلامي. إذ إن نتيجة هذا الحدث، الذي فرضته، كما ذكرنا، عوامل الجغرافيا السياسية للإسلام، من حوض دجلة والفرات، مركز الخليفة والخلافة الإسلامية الشيعية الجديدة. وحيث إن الخلافة الفاطمية في القاهرة كانت تكويناً سياسياً ودينياً مستقلاً، في مواجهة الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، وكان قد إنضم جزء كبير من سكان مصر للمذهب الديني لسادتهم الجدد، المذهب الفاطمي، أي الشيعي الإسماعيلي. فغدت الخلافة الفاطمية هي الممثلة الفعالة والفعلية للشرق والاسلام، بدلاً من الخلافة العباسية السنية في بغداد، التي أصبحت ضعيفة، مجزأة وخاضعة، منذ سنة ٩٥٤، لسيطرة الإيرانيين البويهيئين الشيعيين، الذين لا يعترفون للفاطمية بانتسابها إلى الإمام علي وفاطمة بنت الرسول.

وبدأ الصراع المذهبي بين الخلفاء الفاطميين في القاهرة، الذين، كما ذكرنا، ينتمون إلى العقيدة الإسلامية الفاطمية، المتحدرة من العقيدة الشيعية، وبين الخلفاء العباسيين المسلمين السنيين في بغداد. وفي الحقيقة، إن هذه الخصومة كانت، هي أيضاً، إستمراراً للثابتة التاريخية التي تعمل، بلا كلل، خلال مئات السنين الماضية، في بلدي دجلة والفرات، من جهة، ووادي النيل، من جهة ثانية، من أجل السيادة على مناطق الممر السوري – الفلسطيني، كما شرحنا ذلك سابقاً.

وعند انتقاله إلى مصر (٩٧٣)، عين الخليفة الفاطمي نائباً عنه، أو حاكماً، في أفريقيا، أحد الزعماء المحليين، من البربر الفاطميين (من قبيلة الزنانا). وفي سنة ١٠٥١، إستقل أحد هؤلاء الحكام، معز بن باديس، إستقل عن السيادة الفاطمية، وأقر بسيادة الخليفة العباسي في بغداد. فترك العقيدة الفاطمية واعتنق العقيدة السنية، واضطهد الشيعة في أفريقيا. فكانت ردة الفعل في القاهرة، تجاه هذا التمرد، وانتقاماً من الذين قاموا به، إن أطلق الخليفة على أفريقيا الشمالية قبائل عربية همجية اجتاحتها. فدمرت المدن وأتلفت المزروعات وتركت البلاد بحالة خراب سنين عديدة.

٦السلطات العامة والحياة الإقتصادية والسياسية في الدولة الفاطمية

إن كامل السلطات في الدولة الفاطمية هي، مبدئياً، بيد الخليفة، بصفته “الإمام”، وباعتباره معصوماً من الغلط، بسبب كونه من سلالة رسول الله، النبي محمد بن عبدالله، والإمام أو الخليفة الفاطمي ينتقي خلفه، ولا يشترط أن يكون الإبن البكر او ان يكون الإمام الجديد قاصراً، أي غير بالغ سن الرشد. وفي هذه الحالة، يمارس الحكم، نظرياً، وصي عليه. إلا أن حقيقة الحكم تكون غالباً بيد القواد العسكريين والوزراء، حتى بعد أن يبلغ اامام سن الرشد. ومنذ عهد الخليفة المسنتصر بالله (١٠٣٦ – ١٠٩٤)، أصبح لقب “وزير القلم والسيف”، ثم “وزير القلم” فقط، يمارس الحكم بالنيابة عن الخليفة.

إن الإزدهار الإقتصادي في مصر كان مصدره، من جهة، المحاصيل الزراعية، بفضل ري الأراضي الخصبة من مياه النيل، ومن جهة ثانية، التجارة، بسبب طريق أوروبا – الهند، التي تمر بأرضي مصر وبالبحر الأحمر. إلا أن هذا الإزدهار الإقتصادي كانت منافعه محصورة بطبقة من المحظوظين وبالموظفين. أما بقي السكان، وهم الأكثرية الساحقة، فكان مستوى معيشتهم قريباً من الفقر والبؤس. فكانوا معرضين مراراً إلى المجاعة، بسبب ضعف الري الناتج دورياً عن ناقص مياه النيل، وبسبب ضعف الإضطرابات التي يثيرها الجنود، المؤلفون من عناصر من البربر والأتراك والزنوج.

إن الخلفاء الفاطميين لم يكونوا معتصبين، من الوجهة الدينية، فكثيرون من المسيحيين واليهود وصلوا إلى مركز الوزارة، وهو أعلى مركز في الدولة بعد الخليفة والإمام، دون أن يعتنقوا الإسلام.

كان الخلفاء الفاطميين يشيدون المدن والأبنية. فقد بنوا “المهدية” عاصمتهم في أفريقيا الشمالية، والقاهرة، عاصمتهم في مصر. وأسسوا المسجد الجامعي “الازهر” وبضعة جوامع في القاهرة، لا تزال إلى اليوم نذكر بحكمهم.

وفي الواقع، إن سلطة الفاطميين المباشرة لم تتجاوز الأراضي المصرية. أما المناطق الواقعة بين القاهرة وبغداد، فكانت منقسمة إلى منطقتي نفوذ، تتغير حدودها باستمرار. فبغداد كانت تحت ضغوط عديدة. والفاطميين لم يمتلكوا أبداً جيشاً قوياً يكفي لفرض سلطتهم أو سياستهم. أما تطور سوريا فكان معقداً للغاية: ففي المدن، كان الجنود المغاربة، التابعون للفاطميين، بصطدمون بمقاومة السكان المحليين. وفي الأرياف، كان الجنود ينتقلون باستمرار من دمشق إلى حلب ومن صور إلى فلسطين. قوباء العصيان والتمرد كان عاماً. لكنه فوضوي ويعوزه التنسيق.

٧الخليفة الفاطمي الحاكم بامر الله (٩٩٦ – ١٠٢١)

في عهد الخليفة “الحاكم بامر الله”، وهو من الطغاة المتعصبين، وتحت تأثير الإسماعيليين، كان مسيحيو القدس ضحية إجراءات قاسية، اتخذها ضدهم ذلك العاهل القاسي. وتوج قمة المآسي بهدم كنيسة القيامة، سنة ١٠٠٩، فكان هذا العمل من الأسباب البعيدة للحملة الصليبية الأروبية الأولى على سوريا ولبنان وفلسطين، سنة ١٠٩٨. وقد قبل الحاكم بأمر الله بإعلان الوهيته الشخصية (١٠١٧)، فأصبح، بعد ذلك، “الحاكم بأمره”. ثم إختفى من الوجود (١٠١٢)، وربما مقتولاً.

ومن سخرية القدر المؤسفة، إن الحاكم بأمر الله، أو بأمره، هو إبن مسيحية. فكان اخواله: أورست، بطريرك القدس، وارسان، بطريرك الإسكندرية، للملكيين. وإن هذا الأخير أعدم بأمر الحاكم.

٨مدينة دمشق في عهد الفاطميين

في عهد الفاطميين، “كانت دمشق في وضع صعب، إذ كان الحمدانيون يضغطون عليها من الشمال والفاطميون من الجنوب. هذا إذا لم نذكر الغارات البيزنطية ونشاط القرامطة وغزوات التركمان… جاء حكم الفاطميين ليزيد الوضع صعوبة في المدينة. فكان الجنود المغاربة العاملون لحساب القاهرة يسيئون معاملة الأهالي. إنه قرن من الفوضى السياسية والتدهور. وكانت الفتن أحياناً تتحول إلى فواجع”.

٩إمارة حلب الحمدانية في عهد الفاطميين

ذكرنا سابقاً أن الأمير الحمداني سعد الدولة، سيد حلب، بعد إستيلاء الفاطيمين على دمشق (٩٦٩)، اعترف بسيادتهم (٩٧٠)، وظل مستقلاً في امارته.

وفي سنة ١٠٠٣، أكمل الفاطميون احتلالهم لسوريا، باستيلائهم على مدينة حلب ومنطقتها. فوضعوا نهاية لحكم الأمراء الحمدانيين، الذين كانوا انتزعوا المدينة، سنة ٩٤٤، من أسياد مصر الأخشاديين، سلفاء الفاطميين.

١٠الأمراء المرداسيون العرب، أسياد حلب (١٠٣٣ – ١٠٧٩)

“إن الفوضى التي شاعت في خلافة الحاكم بأمره قد أغرت اعراب بادية الشام بشن الغارات على سوريا. ففي سنة ١٠٢٣، تمكن صالح بن مرداس، زعيم بني كلاب (من اعراب بادية الشام)، من إنتزاع عاصمة سورية الشمالية من يد الفاطميين. واستطاعت السلالة المرداسية أن تحتفظ بمدينة حلب، بين شدة ورخاء، أكثر من خمسين سنة (١٠٢٣ – ١٠١٧)، عمدت في غضونها إلى محالفة بني كلب وبني طيء. فحاصر الكلبيون دمشق (١٠٢٥) وأضرم الطائيون النار في الرملة (١٠٢٤). أما اللصوصية وقطع الطرق وحركات التمرد، التي بدأت بقيام القرامطة، فقد استمرت واسعة الأثر في طول البلاد وعرضها. لكن مدينة حلب نفسها، على ما يبدو، حافظت على ظاهرة الإزدهار… (إن جانباً كبيراً من سكانها كانوا من النصارى)”.

وفي سنة ١٠٤٢، وللتوازن مع مرداسيي حلب، عينت القاهرة حاكماً لدمشق ناصر الدولة، من أسرة أمراء الموصل الحمدانيين العرب أعداء المرداسبين.

وفي سنة ١٠٧٠، خضع أمير حلب المرداسي. التابع للفاطميين، للأتراك السلجوقيين، المسطرين على الخلافة العباسية في بغداد.

وفي سنة ١٠٩٤، إستل الحكم في حلب الأمير التركي السلجوقي “تقش”، إبن السلطان قلب ارسلان. لكنه سقط في إحدى المعارك في السنة التالية (١٠٩٥). فحكم مكانه ابنه رضوان (١٠٩٠ – ١١١٣)، وتولى الحكم في دمشق ابنه الآخر دقاق (٢٠٩٥ – ١١٠٤) وكان تابعاً لرضوان. وكان صهر لتقش يتولى إقطاع القدس، فأجبر، سنة ٬١٠٩٨ على التخلي عنه للفاطميين.

وفي ذات السنة (١٠٩٨)، خرجت القدس من يد الفاطميين لتقع في يد أعداء غرباء، هم الصلبييون. وسنرى ذلك فيما بعد.

جواد بولس

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *