أول كنيسة مارونية مستقلة وأول مجتمع ماروني منظم في سوريا الشمالية (القرن الخامس)


في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، برز إلى الوجود، على ضفاف نهر العاصي، في سوريا الشمالية، أول كنيسة مارونية مستقلة وأول مجتمع ماروني منظم.

قبل الفتح العربي الإسلامي لبلدان الهلال الخصيب (٦٣٥ – ٦٤٠)، أي لبنان وسوريا وفلسطين. كانت هذه البلدان، بأجمعها تقريباً، تعتنق الدين المسيحي. وكانت تشمل أربع كنائس كبرى متميزة، مع مجتمعاتها من المؤمنين وتنظيماتها الاكليريكية الخاصة (بطاركة وأساقفة وكهنة وغيرهم). وهذه الكنائس هي: ١- الكنيسة الملكية أو الارثوذكسية (وهي كنيسة رسمية تقريباً تخضع للتوجيهات الملكية أي الإمبراطورية البيزنطية). ٢- الكنيسة النسطورية. ٣- الكنيسة المونوفيزية، أو اليعقوبية. ٤- الكنيسة المارونية. وكانت اللغة الدينية والأدبية لهز الكنائس الأربع هي اللغة الدينية والأدبية لهذه الكنائس الأربع هي اللغة الآرامية، أو السريانية، وهي اللغة الدارجة لبلدان الهلال الخصيب آنذاك. أما في الكنيسة الملكية، أو الأرثوذكسية، حيث كانت اللغة الآرامية لغة الطقوس الكنسية، فقد حلت محلها بعدئذٍ اللغة اليونانية.

  • دير القديس مارون على ضفاف العاصي
    المركز الرئيسي للكنيسة المارونية الجديدة وللشعب الماروني الجديد

في البدء، كان الموارنة مندمجين بمسيحي سوريا الملكيين. وعند إنشقاق المونوفيزيين، أو اليعاقبة سنة ٤٥١ ، على أثر إنعقاد مجمع خلقيدونيا، وجد الموارنة الفرصة مناسبة للإنفصال عن باقي مسيحيي سوريا وتأسيس كنيسة ومجتمع طائفي متميزين ومتمسكين، هنا أيضاً، بتعاليم مجمع خلقيدونيا. وقد تكاثرت اديرتهم على ضفاف العاصي، وكان أشهرها دير القديس مارون، الذي أصبح المركز المسيحي الأكثر أهمية في سوريا. فكانت له الأولوية على جميع المؤسسات الدينية في المنطقة. وهو أعطى إسمه، ليس فقط للرهبان، بل للمؤمنين الذين تبعوهم، أي للشعب الماروني.

وكان تعلق رهبان دير القديس مارون بتعاليم مجمع خلقيدونيا يسبب لهم متاعب قاسية، وبخاصة من جانب المونوفيزيين، الذين كانوا كثيري العدد ونافذين. وفي السنوات الأولى للقرن السادس، لاقى ٣٥٠ راهباً مارونياً حتفهم واحرق عدد من اديرتهم.

وبعد الفتح العربي الإسلامي، غدا للمونوفيزيين نفوذ لدى العرب، إذ أنهم رحبوا بهم عندما جاؤوهم كفاتحين، وذلك بسبب كره المونويفزيين للبيزنطيين.

وفي القرن السابع، ظهرت في الشرق عقيدة لاهوتية جديدة: مسألة المشيئة الواحدة في المسيح. إختلف المسيحيون حولها واشتد النزاع. بعضهم كان يقول أن في المسيح مشيئة واحدة هي المشيئة الإلهية. وبعضهم كان يقول بمشئتين: الهبة وانسانية.

أخذ الموارنة برأي البابا هونوريوس الأول (٦٢٥ – ٦٣٨). الذي قال إن في المسيح مشيئة واحدة: هي المشيئة الإلهية. هذا الموقف من قبل الموارنة أضاف إلى أعدائهم: المونوفيزيين، أو اليعاقبة، والنساطرة، عدواً ثالثاً: هم القائلون بأن المسيح مشئتين.

وفي سنة ٦٨٠ – ٦٨١، عقد في القسطنطينية سادس مجمع ديني، أو مسكوني، بطلب من الإمبراطور قسطنطين للرابع، وبحضور ممثل عن البابا. فتنقض المجمع نظرية البابا هونوريوس الأول وقرر أن في المسيح مشئتين: الهبة وانسانية. فتابع الموارنة هذا القرار. وانصب عليهم غضب الذين لا يقولون بالمشئتين.

  • تأسيس البطريركية المارونية (٦٨٧).
    دير القديس مارون علي العاصي مركز الكرسي
    البطريركي الجديد

كانت الصراعات الدينية والسياسية، التي قادها ضد أعدائهم، قد أنمت لديهم حس المجتمع الخاص والشعور بالحاجة إلى رئيس أعلى ينتخب من بينهم. وهكذا، وفي غضون شغور الكرسي البطريركي الإنطاكي لوقت طويل (٦٠٩ – ٧٤٢)، قام الموارنة في سوريا، سنة ٦٨٧، بإعلان المطران يوحنا مارون، اسقف البترون في لبنان، بطريركياً عليهم. وقد حمل لقب بطريرك انطاكيا، وهو اللقب الذي حمله خلفاؤه حتى اليوم، واتخذ من دير القديس مارون على العاصي كرسياً للبطريركية. فأصبح البطريرك جامع شمل الموازنة، وفي الوقت ذاته، المحور السياسي والإكليركي. وقد تعزز هذا الوضع بالحقوق الزمنية التي اقرها العرب المسلمون للرؤساء الروحيين في الطوائف المسيحية.

  • الموارنة والخلفاء الأمويون (٦٦١ – ٧٥٠)

إن الموارنة، الذين أسسوا، منذ القرن السابع، في سوريا، كنيسة خاصة مستقلة عن بيزنطيا، كانوا يعاملون بمراعاة من قبل الأمويين، بحيث أن عدة خلفاء أقاموا في مؤسسات رهبانية مارونية. وقد ذكر إبن عساكر، في كتابه “تاريخ دمشق”، إن “عدة خلفاء امضوا قسماً من حياتهم وتوفوا في أديرة مارونية. فالخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز (٧١٧ – ٧٢٠) كان ينزل خلال سنوات خلافته في دير مار سمعان الماروني، قرب معرة النعمان (جنوبي حلب)، حيث لا يزال قبره. كما إن الخليفة عبدالملك بن مروان (٦٨٥ – ٧٠٥) كان يمضي فصل الربيع في دير المران (مارون)، الواقع في جوار دمشق. والخليفة الوليد بن عبدالملك (٧٠٥ – ٧١٥) توفي في دير مارون هذا، ودفن فيه… وفي هذا الدير نفسه اقيمت احتفالات أعراس بعض (أمراء) بني موران”.

٢


تكون المارونية وتطورها في الجبل اللبناني


١- النزوح الماروني من سوريا.
تكوين أول مجتمع ماروني منظم في جبل لبنان.

في أوساط القرن السابع، كان الموارنة قد انتشروا إنتشاراً واسعاً في جميع مناطق سوريا الشمالية. ولكي يتخلصوا من إضطهاد خصومهم، أخذ البعض منهم يتجه نحو جزيرة قبرص، والآخرون نحو المنحدرات شبه القاحلة في جبل لبنان، حيث كونوا مجتمعاً قومياً، أي شعبان مارونياً، وبلغة عصرنا الحاضر: “أمة مارونية”، بقيادة رؤسائهم الروحيين.

وتوالت هجرة الموارنة إلى لبنان من سوريا الشمالية بنشاط، وكانت قد بدأت في نهاية القرن السادس. “فأقام هؤلاء في منطقة الشمال في أول الأمر، وبخاصة عند سفح الكتلة الجبلية التي يعلوها الأرز، ثم اندفعوا نحو الوسط والجنوب. وهكذا، شيئاً فشيئاً، غطى هذا الشعب العامل النشيط أرض لبنان، وقد بقي القسم الشمالي كمركز لتجمعه… وحيث كانوا مضطرين للحياة في وسط هذه البيئة الجافية الصعبة، نحتوا الصخور بصير لا يكل، فاوجدوا فيها جلولاً للزراعة وبساتين معلقة وجنائن شرحة… لقد أصبح للشعب الماروني منذئذٍ وطن نهائي…

“كان هم الموارنة الأول، عند وصولهم إلى لبنان، تنظيم أمور العبادة. ومنذ أوساط القرنة الثامن، نجد كنائس مارونية، مثل كنيسة “مار ماما” في اهدن، وهي بنيت سنة ٧٤٩. وكان القادمون الجدد على إتصال بالسكان المحليين، من بينهم عناصر غربية كالجراجمة (المردة)، فدمجوهم بهم، بحيث اصبحوا شعباً واحداً”.

٢- بروز الطائفة أو الأمة المارونية
في جبل لبنان،
حوالي سنة ٧٠٠

وقد نتج عن إندماج الموارنة والمردة والمسيحيين المحليين، حوالي سنة ٧٠٠، ظهور الطائفة، أو الأمة المارونية، في جبل لبنان، وبدأ دورها التاريخي على مسرح الأحداث في لبنان. وغدت الغة السريانية، وهي لهجة آرامية مسيحية، أي اللغة الدينية والأدبية والشائعة لهذه الطائفة.

وقد بقيت السريانية، أي اللغة الآرامية المسيحية، لغةً للدين والأدب لدى الموارنة، وحتى القرن الخامس عشر، كان هؤلاء لا يزالون يستعملون السريانية لغةً للدين والمحادثة، جنباً إلى جانب مع العربية. وحوالي سنوات ١٧٠٠ و ١٨٠٠ ، كانت عدة قرى مارونية، وبخاصة في لبنان الشمالي، لا تزال تتكلم السريانية. والآن، تستخدم السريانية لغة دينية للموارنة، والعربية للأدب والتخاطب.

٣- الطغيان والظلم في عهد الخلفاء العباسيين (٧٥٠ – ١٢٥٠)

بعد سقوط الخلفاء الأمويين (٧٥٠)، عامل الخلفاء العباسيون لبنان، كما عاملوا سوريا وفلسطين ومصر، أي كبلدان مفتوحة بالحرب.

وفي سنة ٧٥٧، “بسبب الطغيان وظلم الولاة العباسيين، إضطر مسيحيو لبنان الى حمل السلاح، فاستولى جبليو المنيطرة (شرقي جبيل) على قرى البقاع، ثم زحفوا على بعلبك. وقد وقعوا في كمين، فتكبدوا خسائر كبيرة… وقبض على العصاة في قراهم، وثم تشريد معظم اللبنانيين في الأراضي، فقيه بيروت الشهير”. وقد تميز الأوزاعي، ليس فقط بمعارفه الإسلامية الواسعة، ولكن أيضاً بسمو أخلاقه وفضائله الإنسانية. ولد الأوزاعي (٧٠٧ – ٧٧٤) في بعلبك، وعاش ومات في بيروت.

وبعد سنة ٨٣٠، أحس العباسيون أن السلطة الزمنية بدأت من يدهم، فراحوا يركزون نفوذهم على السلطة الروحية، مظهرين غيرة على الدين. “فبدأ التعصب ينتشر. وقد أجبر الخليفة المتوكل (٨٤٧ – ٨٦١) غير المسلمين على ارتداء ثياب ذات لون أصفر… وأمر بهدم الكنائس التي بنيت بعد الفتح العربي… كما صار الموظفين المسيحيين… وأمر بهدم قبور المسيحيين وتسويتها بالأرض… ومنع غير المسلمين من امتطاء… دواب، سوى الحمير والبغال”.

فكانت نتائج هذه الإجراءات التعسفية، التي كانت تتجدد في الأزمنة التالية، أن تناقض تدريجياً عدد الرعايا المسيحيين، الذين، بمعظمهم، راحوا يعتنقون الدين الإسلامي، جماعة بعد جماعة.

٤- إنتقال مركز الكرسي البطريركي الماروني من سوريا الشمالية إلى جبل لبنان (٩٤٥)

في أوساط القرن العاشر، وعلى أثر دمار دير القديس مارون على العاصي، إنتقل مركز الكرسي البطريركي الماروني إلى جبل لبنان، سنة ٩٤٥، وغدا البطريرك، الذي لا يزال يحمل لقب “بطريرك انطاكيا”، يقيم منذئذ في مختلف الأديرة المارونية في جبل لبنان، حيث يسهر على تطور الموارنة في لبنان وخارج لبنان. وهو يقيم، اليوم، في دير سيدة بكركي، قرب جونيه شتاء، وفي الديمان، قرب الأرز، في شمالي لبنان، صيفاً”.

٥- الحياة العادية للموارنة الأول في جبل لبنان حتى مجيء الصليبيين (٧٠٠ – ١٠٩٨)

“عندما تحصن الموارنة في سلسلة جبال لبنان الوعرة، حيث يتجاوز بعض قممها ثلاثة آلاف متر، شكلوا جميعاً قومياً صغيراً، مستقلاً نسبياً… ومع الزمن اضطروا إلى الخضوع للفاتحين الذين كانوا يحيطون بهم من جميع الجهات. ولكنهم زالوا، نوعاً ما، محتفظين بنظامهم الخاص ذي الوجه الإقطاعي… وفي أوقات الشدة، كانوا يلجأون إلى أعلى الجبل. فجعلوا من منطقة الأرز ومن بشري مركزاً لقوميتهم، وهناك كانوا يستطيعون الإستمرار بممارسة نوع من الإستقلال. ومع أنهم اضطروا، في عهد العباسيين، إلى دفع الجزية، ومع أن لبنان غدا مندمجاً بإقليم دمشق، فأنهم تابعوا على هذه الحال حياتهم الخاصة ونجحوا نجاحاً كبيراً بالحفاظ على وجودهم القومي. ويتوجه من كهنتهم ومن كبار مالكي الأرض، فانتظموا بقوة في شعب اقطاعي صغير، عاش في ملاذات جباله، خلال قرون، في شبه عزلة… ولكي يحافظ مسيحيو لبنان على ما تبقى لهم من إستقلال بطريقة النضال، أحسوا بضرورة توحيد جهودهم أكثر وأوثق، بتجمعهم وانتخابهم أحياناً رئيساً واحداً، من أجل تنسيق دفاعهم”.

في لبنان عاش الموارنة في الجبال والهضاب والوديان. كل قرية أو منطقة كان لها حياتها الخاصة. كان هؤلاء الموارنة فقراء، يعيشون في طبيعة جافية. “فاعملوا يدهم في الصخور ونحتوها، فجعلوا منها جنائن معلقة وبساتين جوية”. “بينهم كتابة عن قبو: غرفة واحدة للجلوس وللنوم وللطعام، وفي مؤخرتها يذربٌ الفدان والحمار والعنزة… الأولاد يمشون حفاة ويسعدون أهلهم، منذ العاشرة من عمرهم، في الفلاحة والزراعة.

“لا مدارس. فكان الكاهن يعلم الأولاد تحت السنديانة (أو الجوزة). يعلمهم القراءة والكتابة، ومن قرأ صفر المزامير، (مزامير داود)، عد أنه أنهى دراسته”.

“الموارنة شعب متعبد. فكانوا يقبلون جميعهم إلى الكنيسة للقداس… وكانت الكنيسة تجمعهم لصلاة المساء. فكانت هناك قراءات من التوراة… من الإنجيل… كانوا يصومون جميعهم من عمر سبع سنوات، وكانوا يقطعون عن اللحم والبيض طيلة أيام الصوم… كان الأسقف الماروني يتفقد رعاية… كان يبقى يومين أو ثلاثة في الرعية… فيحل المشاكل التي لم يستطع الكاهن أن يحلها.

“كان البطريرك الحاكم الروحي والزمني. وكان يعاونه الأساقفة والأعيان. وقد رقي حكام القرى الكبيرة، “المقدمون”، إلى الدرجة الشدياقية، ليكونوا في خدمة الشعب تحت إدارة الكهنة والرهبان”.

٦- لبنان وسوريا وفلسطين صحة نزاع بين العبسي والفاطميين والأتراك السلجوقيون (٩٦٩ – ١٠٩٨)

في سنة ٩٦٩ ، جاء جيش فاطمي من أفريقيا الشمالية فاستولى على وادي النيل، ثم على فلسطين والشواطئ اللبنانية ودمشق. وفي ظل حكم الخلفاء الفاطميين، الذين إتخذ من القاهرة مقراً لهم، بدأ الصراع المذهبي بين خلفاء القاهرة الفاطميين، الذين ينتمون للعقيدة الإسماعيلية الفاطمية. المنحدرة من العقيدة الشيعية، وبين الخلفاء السنة في بغداد، الذين اصبحوا خاضعين للسيطرة الإيرانية. وفي عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، كان مسيحيو القدس ضاحية اجراءات قاسية اتخذها ضدهم هذا العاهل. وتوج قمة المآسي بهدم كنيسة القيامة في القدس سنة ١٠٠٩ م. هذا العمل الذي كان من الأسباب البعيدة للحملة الصليبية الأولى على سوريا ولبنان وفلسطين سنة ١٠٩٨.

وفي سنة ١٠٥٥، اقبل الأتراك السلجوقيون، القادمون الجدد من آسيا الوسطى، والذين إنعتنقوا حديثاً المزهب الإسلامي الصيني، احتلوا إيران والعراق. وفي سنة ١٠٧١، انتزعوا القدس وفلسطين من الفاطميين، وفي سنة ١٠٧٦، استولوا على دمشق ومنطقتها. وفي سنة ١٠٨٦، احتلوا حلب وسوريا الشمالية. وفي سنة ١٠٩٨، إنتزع الفاطميون منهم القدس وفلسطين.

إن حالة الفوضى وانعدام الأمن في بلدان الشرق الأدنى، أنمت النظام الإقطاعي لمصلحة الطغاة الغرباء في المقاطعات الإسلامية. وهذا ما سهل للصليبيين إحتلال بلدان المشرق سنة ١٠٩٨.

٧- عشية وصول أول موجة صليبية واحتلالها بلدان المشرق سنة ١٠٩٨

من أجل فهم أفضل للسهولة النسبية التي استطاعت بها الحملات الصليبية الأولى أن تسيطر على سوريا الشمالية ولبنان وفلسطين، والبقاء في الواجهة البحرية لهذه البلدان طوال قرنين تقريباً، علينا أن نتذكر الظروف العامة للبيئة التاريخية في المنطقة قبل مجيء الصليبيين.

يقول لامنس: “إن التجزئة السياسية لسوريا وتعدد المذاهب الدينية… قد فتحا الباب على مصاريعه للغزو الأجنبي. وكان الشعب، الذي عانى الذل والفقر عدة قرون من الجور العباسي والفاطمي والسلجوقي التركي، لا يبالي عند تبادل من يسوده. ففي تلك الحقبة، التي انتهت آنذاك نهاية (القرن الحادي عشر)، كان المغامرون الغرباء والمرتزقة والأتراك والبربر يحتلون المسرح… وجميعهم، في حرب بعضهم ضد البعض الآخر، يحاولون التوسع على حساب جيرانهم.. كانت الأرض الصالحة للزراعة تخص الإقطاعيين العسكريين من الأتراك السلجوقيين ومن أمراء التركمان، الذين كانت قبائلهم تنتشر آنذاك في سوريا… وفينيقيا ولبنان. وكان السلطان والأمراء المحليون يمنحونهم هبات من الأرض، كاقطاعات لهم، لكي يدفعوا أجور الفرق العسكرية التي كانت عليهم أن يعيلوها. وبهذه الطريقة، انتقلت أفضل الممتلكات السورية إلى أيدي المغامرين الغرباء، الذين كانوا يتدافعون لجني ثروة على حساب البلاد ومواطنيها الأساسيين”.

ومن جهة أخرى، في هذه الفترة التي نحن بصددها، كان الدين، كما رأينا، يمثل القومية والوطن. وكان المجتمع الطائفي السياسي يحل محل المجتمع القومي العنصري. وكانت الجماعات الطائفية المختلفة، في جميع البلدان، تعتبر نفسها غريبة على الجماعات الأخرى، بل عدوة لها. كما كانت كل فئة تسعى للسيطرة على الفئات المخالفة لها بالرأي أو بالعقيدة.

وبالإضافة إلى الطوائف المسيحية، التي كانت تشكل في لبنان وسوريا وفلسطين اقليات مهمة، فإن الشعوب الإسلامية، في هذه البلدان، كانت بأغلبيتها الكبرى، مؤقلفة من عناصر شيعية، خاضعة ومستغلة من قبل متسلطين ستين غرباء الأصل، هم الأتراك السلجوقيون، الذين أتوا حديثاً من آسيا الوسطى، فاعتنقوا الإسلام وتبلغوا المذهب السني.

فالمسيحيون، في لبنان وسوريا وفلسطين، كانوا رعايا السلطان السلجوقي. ولكن، بسبب دينهم، كانوا رعايا من الدرجة الثانية، ومستبعدين سياسياً. وفوق ذلك، فإن الدين المسيحي قرب بين المواطنين المسيحيين ومسيحيي ما وراء البحار نظراتهم في الدين. فعندما امتدت الموجة الصليبية الأولى نحو الجنوب، بعد انتزاع انطاكيا من أيدي الأمراء الأتراك السلجوقيين (١٠٩٨)، استقبلت في البلاد التي اكتسحتها بلامبالاة من جانب الشيعة وبعطف من جانب المسيحيين.

٨- في عهد الإمارات الفرنجية في المشرق (١٠٩٨ – ١٢٩١)

الموارنة وباقي المسيحيين

على غرار الأسلوب الإقطاعي السائد في أوروبا، في تلك الفترة، تم تقسيم البلدان المحتلة إلى أربع دول فرنجية: مملكة القدس، كدولة رئيسية ذات سيادة، وثلاث دول إقطاعية طبيعة: كونتية طرابلس، وإمارة انطاكيا، وكونتية ايديس (الرها) على ضفتي الفرات.

كان الفرنج يعتبرون جميع الذين يحترمون الصليب مسيحيين، دون تمييز في الطوائف والمذاهب الدينية.

“وكان الوئام يسود دائماً الموارنة والفرنج” (Lammens). فكان هنالك مكانٌ ممتاز محفوظاً للموارنة في نظام الدولة اللاتينية. “فهم يأتون مباشرة، بعد الفرنج، وقبل اليعاقبة والأرمن، الذين كانوا يتقدمون على الإغريق والنساطرة والأحباش. وقد قبلوا في صفوف البورجوازية، وهو إمتياز يبيح لهم إمتلاك الأرض والتمتع ببعض الإمتيازات التي كان يتمتع بها البورجوازيون الفرنج. وحسب وثائق تلك الفترة، فإن الموارنة كان بإمكانهم تجنيد أربعين ألف مقاتل.

وفي عهد الفرنج، عادات المواصلات العادية من الغرب، بعد أن كانت مقطوعة منذ قرون، كما نشأت العلاقات بين البطريركية المارونية والبابوية روما. وكان هناك تبادل في البعثات. وفي أثناء هذه الحقبة، عرفت الكنيسة المارونية نهضةً حقيقية، يقدم الفن الديني لنا البرهان عليها.

إن “فتح الموانئ اللبنانية للتجارة الأروبية كان… بدء إزدهار كبير (للبلد) دام قرنين”. وهذا الإزدهار عم جميع سكان البلاد: الفرنج، ثم المواطنين الأصليين، من مسيحيين ومسلمين على السواء.

٩- في عهد دولة المماليك (١٢٩١ – ١٥١٦)

بعد الإنسحاب الكامل للفرنج من لبنان وفلسطين، عقب إنتصار دولة الممالك عليهم (١٢٩١)، رحل قسم كبير من الموارنة إلى الخارج، ومن بقي منهم في لبنان عاد إلى الكهوف والمغاور.

وفي عهد دولة المماليك (اتراك وجركس: ١٤٦٠ – ١٥١٦)، تجمع الموارنة في المنطقة الشمالية من لبنان: بلاد جبيل ومنطقة البترون، ومنها صعوداً، باتجاه الأرز. أما في كسروان، فقد سيطر الشيعة. وفي عام ١٣٠٥، طوق جيش من المماليك، زحف من طرابلس ودمشق، يزيد عدده على خمسين ألف رجل، منطقة كسروان المتمردة. فخربوها وأفنوا العدد الأكبر من العصاة. فأدت المذابح وعمليات الإجلاء التي بعثت المعركة إلى افقار منطقة كسروان من سكانها الشيعة والدروز. فاستغل المسيحيون، وبخاصة الموارنة، هذه الفرصة، يملأوا الفراغ في هذا الإقليم.

والجبل اللبناني، الذي لم يحتله عسكرياً جيش المماليك، ظل، كما في الماضي، ملجأ لمختلف الأقليات في الجبل: أي الموارنة في الشمال، والدروز في الوسط، والشيعة في الجنوب. وقد ظلت هذه الطوائف هكذا، برؤىسائها المحليين، المستقلين إدارياً وداخلياً، والتابعين بعضهم لنائب سلطان المماليك المقيم في طرابلس والبعض الآخر للنائب المقيم في دمشق.

وفي القرن الخامس عشر، إزداد عدد الموارنة في لبنان الشمالي، فانتشروا في لبنان الوسط، خصوصاً في منطقة كسروان، التي افرغتها عن سكانها جيوش المماليك سنة ١٣٠٥. وكان مقر البطريرك الماروني في قنويين (وادي الأرز العميق). وفي القضايا الزمنية، كان الموارنة يخضعون لعدة رؤساء يحملون لقب “مقدم”، وكانوا تابعين رسمياً لنيابة طرابلس المملوكية.

الموارنة كانوا يعملون بمدأ أن الملكية الخاصة هي حق طبيعي للإنسان. ولكنهم كانوا يقدمون قسماً من املاكهم للكنيسة (أوقاف)، لكي تصرف وردتها، بواسطة البطريرك، لمصلحة الفقراء والمعوزين حسب الحاجة.

وفي سنة ١٤٣٦، اوقفت سلطات المماليك موفداً مرسلاً من قبل البابا إلى الموارنة. فأوفد البطريرك بعد أعيان الموارنة وزودهم بمبلغ من المال للإفراج عنه”.

١٠- في عهد دولة الأتراك العثمانيين (١٥١٦ – ١٩١٨)

آ) في القرن السادس عشر

بعد إحتلال الأتراك العثمانيين لبلدان المشرق (١٥١٦)، “كان الجبل اللبناني يفتح صدره لكل من يثور على ظلم الباشوات الأترك… وكان الأمراء المحليون… يحافظون على نوع من الإستقلال الذاتي تجاه السلطة المركزية”.

“عند الفتح العثماني، سمح للموارنة في لبنان الشمالي بألا يخضعوا مباشرة لباشا مدينة طرابلس، فاحتفظوا بمقدمين من بني قومهم. وكانت المهمة الأولى لهؤلاء جباية الضرائب. كما كانوا يؤدون حساباً أمام مسؤول مالي مسلم، بعينه الباب العالي”.

من جهة المعيشة، “كانت الأرض وحدها مرض رزق وملجأ… الماروني يحب أرضه،… هي شيء مقدس، لا تباع إلا عند الحاجة القصوى…

ومن إشتغل لمصلحة رجل آخر، يفلح أرضه ويزرعها، كان شريكاً له لا أجيراً… إن لفظة أجير غير مرغوب فيها عند الموارنة”. (ميشال عويط).

يقول الراهب الإيطالي دنديي، الذي أوفده قداسة البابا سنة ١٥٩٦ ليستقصي إيمان الموارنة: “إن الكهنة بعضهم متزوجون، وبعضهم، والرهبان، لا يتخذون زوجات… وإن الكهنة والرهبان. يعملون جميعهم في خدمة الشعب…

“إن معاملتهم وعقودهم لا تحتاج لتسجيلها ومصادقة الحكام عليها. فلا يدخل احدهم سوء ظن بقربيه. فهم رجال ثقة سليمو النية صادقو الطويلة تشف ظواهرهم من بواطنهم” (ميشال عويط).

ب) في القرن السابع عشر

في اواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، ظهر على مسرح الشرق الأدنى الأمير الدركسزي اللبناني فخر الدين المعني الثقافي، الذي تسلم، عام ١٥٩٠، زمام الحكم على اقطاعه في الشوف، في لبنان المتوسط.

“وبنضاله المستمر في سبيل إستقلال لبنان، وخلال ما يقارب نصف قرن، استرعت شخصيته الحازمة اهتمام الشرق والغرب”. (Lammens)

إختار فخرالدين، كمستشارين ومعاونين له، رجالاً ذوي مؤهلات من مختلف الطوائف الدينية في لبنان، وبخاصة من الموارنة. وقد جمع كل الطوائف اللبنانية، بما فيها الموارنة،. وحرر لبنان من النير العثماني. فكانت امارته تحتل المعالم الأولى للبنان الكبير عام ١٩٢٠، وللبنان الحاضر. وبعد زوال فخرالدين (١٦٣٥)، غرق لبنان في فوضى تامة، بسبب خلافات الزعماء المحليين وعدم تفاهم الطوائف اللبنانية المختلفة.

يقول لوران دارفيو (Laurent d’Arvieux) ، الذي زار وادي قاديشا سنة ١٦٦٠، “إن بطريرك الموارنة كان يعيش في كهف بعيد عن الأنظار، صعب المنال… وجميع الأحبار الموارنة يعيشون حياة هي في منتهى التشقف والبساطة. يلبسون ثياب الفقر ولا دخل لهم إلى ما ينتجون من الأرض بعمل أيديهم. لا نجد عندهم ترف الأحبار الأروبيين، حللهم البيعية نظيفة برغم فقرها. الفاضلة حلتهم، لا الأقمشة الفاخرة المزركشة بالذهب والفضة. عصيهم من خشب، ولكنهم اساقفة من ذهب. لذلك يحترمهم المسيحيون جميعاً إحتراماً لا حد له. يطيعونهم طاعة عمياء في ما يأمرونهم به، يقبلون يد الأساقفة والأسقف والكاهن، وقدم السيد البطريرك. ويحلنهم كآباء لهم ورؤساء”.

وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر، على أثر قدوم بعثة مارونية إلى فرنسا ومقابلتها الملك لويس الرابع عشر، أرسل هذا العاهل إلى سفيره لدى السلطان العثماني، نظراً للصداقة التقليدية التي كانت تربط بين زعماء الدولتين العظيمتين، يعلمه بأنه أخذ تحت حمايته المسيحيين الموارنة في جبل لبنان.

ﺠ) في القرن الثامن عشر

وفي العام ١٧٠١، على أثر رسالة بعث بها البطريرك الماروني اسطفان الدويهي، مع رسول خاص، إلى الملك لويس الرابع عشر، يشكو فيها العنف والاعتداءت التي حصلت خلال سنة ١٧٠٠، في جبل لبنان، ضد الطائفة المارونية وضده شخصياً وضد بعد الأحبار، أرسل العاهل المذكور، بتاريخ ١٠ آب ١٧٠١، جواباً إلى البطريرك، وكتاباً إلى سفيره لدى السلطان العثماني في القسطنطينية، يطلب فيه من السفير أن يستحصل من السلطان على عمر بعد بموجبه الحالة في البلد الماروني إلى ما كانت عليه سابقاً، وأن تكون علاقة هذا البلد، الذي لا يزال تحت حماية الملك، مع باشا (ولي) دمشق، ومنع باشا طرابلس من المداخلة مستقبلاً في بلاد الموارنة وفي موارد دي قنوبين، مقر البطريرك. (De la Roque, Voyage de Syrie et du Mont-Liban, 1722, tome II, p. 314-321)

وفي القرن الذين عشر، كان لا يزال الموارنة والدروز والشيعة (المثاولة)، يشكلون أهم التجمعات السياسية – الطائفية التي كانت تتقاسم لبنان.

يقول فولتاي، العالم الفرنسي الذي جاء إلى لبنان سنة ١٧٨٣، حيث مكث بضعة أشهر، وتعلم اللغة العربية، في كتاب له صدر سنة ١٧٨٧ ، إن في منطقة الموارنة “طبيعة الأرض، التي توفر الدفاع في كل مكان، اعطت كل قرية، بل كل عائلة تقريباً، وسيلةً للمقاومة بقواها الخاصة، وبالتالي لمنع سلطة واحدة من إزدياد نفوذها… هذا المجتمع… الذي كان يحيط به منذ نشأته أعداء أقوياء، لم يستطع مقاومتهم إلا بفضل وحدة ابنائه… وهكذا صان الموارنة أنفسهم إلى هذا اليوم من الظلم والإستبداد والإضطرابات التي تنتج عن الفوضى..

والأمة (المارونية) برمتها تعيش من الزراعة… والملكية مقدسة، على قدر ما هي في أوروبا… والسفر، في الليل أم في النهار، يتم بأمن غير معروف في باقي أنحاء الإمبراطورية (العثمانية)… وطبقاً لعادة اساسها الحظر وأوضاع البلاد السياسية، يمشي جميع الرجال، شيوخاً، وفلاحين، مسلحين دائماً بالبنادق وبالمدى.

“وفي الأمور الدينية، يخضع الموارنة لروما. ومع اعترافهم بسلطة البابا العليا، فإن الإكليروس عندهم لا يزال ينتخب رئيساً يلقب بالبطريرك، أو بطريرك انطاكيا… ويحتفلون بذبحة القداس باللغة السريانية… ويتلى الإنجيل وحده باللغة العربية، لكي يسمعه الشعب… ولا يحتفل في أوروبا بالطقوس الدينية أكثر مما في كسروان… ويحفظ (الأساقفة) على التواضع الذي نشأوا عليه…ومعظمهم يعيش في الأديرة، مثل الرهبان البسطاء، في لباسهم وقوتهم… وهم، كالكهنة يؤخذون من صف الرهبان…

“ونظراً لانضواء الموارنة في روما، اعطاهم البابا مقراً في مدينة روما، حيث يستطيعون إرسال عدد من الشبان ليتلقوا تربية مجانية… والفائدة القصوى التي نتجت عن هذه الأعمال الرسولية، هي أن فن الكتابة شاع عند الموارنة أكثر من غيرهم. وبهذه الصفة، شغلوا جميع مناصب الكتاب والنظار… عند الأتراك، وبخاصة عند الدروز، حلفائهم وجيرانهم”.

وقرب نهاية القرن الثامن عشر، بينما كانت مناطق شرقي المتوسط العثمانية قد آلت خراباً بكاملها تقريباً، ومقفرة من السكان، كان جبل لبنان، حيث تسود الحرية والأمن، مزدهراً، يضيق سكانه. “في لبنان المتوسط، كان عدد سكن منطقة كسروان (المارونية) يعادل ضعفي سكان فلسطين بالذات، وكانت ذات كثافة في عدد السكان موجودة في باقي المناطق اللبنانية”.

د) في القرن التاسع عشر

الأمير بشير الثاني الشهابي (١٧٨٨ – ١٨٤٠)، عند تسلمه زمام الحكم في لبنان، كان عمره إحدى وعشرين سنة. وكان أبوه قاسم، الذي تنصر واعتنق المذهب الماروني، قد عمده. فكان “صورة للعاهل الشرقي المثالي، يفرض احترامه بفضل دهائه وهيبته”. (Lammens)

ومنذ أوائل عهده، وبالأخص منذ ١٨٠٤، راح يحاول إعادة بناء دولة فخر الدين الكبير. فكان يناضل في سبيل إستقلال لبنان. وسهر على تأمين العدالة للجميع، بصرف النظر عن الفوارق في العقائد الدينية. وشيد، بالقرب من دير القمر بيت الدين.

بالرغم من تنصره المتكتم واعتناقه المذهب الماروني، فقد إحتفظ بشير من الثاني بلقب “أمير الدروز”.

ففي عهد الأمير بشير، كما في عهد الأمير فخر الدين الثاني، يمكننا أن نسمي المجتمع السياسي اللبناني، الذي بدأ يعي وحدات مصيره، “إتحاد طوائف مذهبية” Fédération de communautés csonfessionnelles ، إذ إن جميع هذه الطوائف كانت متحالفة سياسياً، مع إحتفاظ كل واحدة منها بذاتيتها الجغرافيا والطائفية وبخواصها المحلية وبتنظيمها الإجتماعي والثقافي وبعاداتها وتقاليدها الخاصة. إن هذا التجزؤ الطائفي والسياسي لللبنانيين، انما هو أحد الثوابت التاريخية لهذا البلد، منذ العهود الفينيقية.

وبين سنتي١٨٣٠و ١٨٦٠ ، وبإيعاز من السلطات العثمانية، بغية تحويل لبنان إلى ولاية كسائر الولايات العثمانية، حصلت مجازر في دير القمر والشوف والمتن، وامتدت إلى البقاع وزحلة وغير أماكن، قتل فيها ألوف المسيحيين، وبالأخص من الموارنة. فجاءت، على اثرها، قوات عسكرية فرنسية، برية وبحرية، اعادت السلم وأمن إلى البلاد. ثم تدخلت سياسياً الدول الأروبية العظمى، بالتفاهم مع فرنسا، فاضطرت الدولة العثمانية إلى الإعتراف إستقلال جبل لبنان إستقلالاً ذاتياً، إدارياً، داخلياً، بموجب نظام أساسي وقعه، سنة ١٨٦١، مندوبو الدولة العثمانية وفرنسا وانكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا وإيطاليا، ثم أقر نهائياً سنة ١٨٦٤.

إن هذا النظام الأساسي، الذي يمنح سكان جبل لبنان إستقلالاً ذاتياً، داخلياً وادارياً، بضمانة فرنسا وباقي الدول الأوروبية العظمى. هو، على الصعيد الداخلي، نوع من الحكم اليفديرالي بين الموارنة وباقي الطوائف الدينية والمذهبية في لبنان. وهذا الحكم الفيديرالي أنجب إتفاق على إستقلال لبنان سنة ١٩٤٣، أي إتحاد الطوائف المذهبية في لبنان، على أساس إستقلال البلد عن الشرق والغرب.

إن سياسة الدولة العثمانية، بتشجيع من بعض الدول، ارادت خنق إستقلال لبنان في المهد، فحرمت اللبنانيين، بنظام سنة ١٨٦١، من مدينة بيروت ومن السهول الخصبة التي تضمن لهم معيشتهم، وقصرت جبلهم على الصخور العاتية. فمع أن نشاط اللبنانيين في الوطن تغلب على هذه الصعاب في الداخل، إلى أن البيت كان “ضيقاً” عليهم.

ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي بعد إعلان الإستقلال الداخلي بزمن قليل، انطلقت من جبل لبنان، بالأخص من المناطق المارونية بسبب ضيق مساحة اراضيها، حركة هجرة (أو إغتراب) واسعة وكثيفة، نحو بلدان العالم الجديد، كحركة أسلافهم في العهود القديمة، أي الكنعانيين والفينيقيين، نحو بلدان غربي المتوسط. لم يطل الزمن مع هؤلاء المغتربين اللبنانيين، في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حتى رفعوا اسمهم واسم وطنهم لبنان المقيم إرتفاعاً عالياً، في جميع البلدان التي حلوا فيها، وفي جميع ميادين النشاط: التجارة، المصارف، الثقافة، العلم، الأدب، الشعر ، الفن، المهن الحرة، السياسة، إلخ. وهم يشكلون، اليوم، دعامة ثمانية وفعالة لمصلحة وطنهم الأم في أذمتهيو العصبية الحاضرة. عدا ما قدموه من خدمات في سبيل قضية فلسطين العربية.

إن هذا الإنتشار الماروني في جميع بلدان العالم، والإندماج مع سكانها، والتعاون واياهم في جميع ميادين النشاط الإقتصادي والمالي والصناعي والفكري والعلمي والأدبي والإجتماعي والسياسي وغير ذلك، بدحض بصورة مفعمة رغم البعض القائل إن المارونية تتميز بالانعزالية.

وفي الواقع، إن ما يسمونه بالانعزالية المارونية ليس هو تمسك الموارنة بالحرية والإستقلال الذين تحتمهما عوامل الطبيعية اللبنانية، أي الجبل والبحر، واللذين ناضل الموارنة من أجلهما طوال أجيال عديدة، كما ذكرنا سابقاً.

إن العروبة التي تفرضها المارونية، هي التي تجسد، في نظرها، رغبة العروبيين بالقضاء على إستقلال لبنان وحريات بنيه، بغية إذابة هذا البلد في دولة عربية كبرى باسم الوحدة العربية.

أما العروبة، كثقافة وحضارة، أي التمسك باللغة العربية وباستعمالها والتعمق بالأدب والتاريخ والفلسفة والشعر وغيرها من العلوم العربية، فإن الموارنة، وباقي اللبنانيين، كانوا دوماً، ولا يزالون، السياقين في مياديتها هذه، في الوطن والمهجر. إن من مواهب الموارنة واللبنانيين عموماً، على إختلاف مذاهبهم، ماضياً وحاضراً، إن بإمكانهم إتقان اللغات والثقافات العربية والأجنبية معاً، كأبنائها الأصليين.

والعروبة الأصلية، في عهود الخلفاء الأمويين والعباسيين الأول، كانت سياستها الثقافية والدينية تتلاءم مع الثقافات الأجنبية، اليونانية والفارسية وغيرها، في ذلك الزمن. اطلبوا العلم ولو في الصين.

ھ) في النصف الأول من القرن العشرين (١٩١٥ – ١٩٤٥)

وفي سنة ١٩١٥، على أثر دخول الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. (١٩١٤ – ١٩١٨)، الغت الحكومة العثمانية إستقلال جبل لبنان الذاتي، الإداري والداخلي. وبسبب سوء تنظيم الإعاشة، أثناء الحرب العالمية الأولى، من قبل السلطات التركية في جبل لبنان، مات جوعاً قسم كبير من اللبنانيين. وبعد إنتهاء هذه الحرب الكبرى، اعطيت فرنسا، في سنة ١۹٢٢، من قبل عصبة الأمم، إنتداباً على لبنان، بحدوده الطبيعية والتاريخية. وبعد الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ – ١٩٤٥)، حصل لبنان على إستقلاله الكامل، سنة ١٩٤٥.

جواد بولس

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *