في تاريخ لبنان الحديث

بقلم جواد بولس

إلى هنا، إلى إبراز الشخصية اللبنانية المميزة، تنتهي مجهودات الفصول. فهي إن وضحت، على إكلام كتابها، تكون الفصول قد حققت الأهم من غاياتها. وإلا تكون قد وجدت نفسها سعيدة، بأن اسهمت إسهاماً، مهما يكن متواضعاً، في هذا السبيل.

الأستاذ جواد بولس، المؤرخ اللبناني ذو الشهرة العالمية الواسعة، يطلق قلمه في هذا المضمار، وهو من أبلغ أقلامه المختصة، فعسى أن ينبثق منه نور.

يرى الأستاذ بولس أن الشخصية اللبنانية بدأت تتكون، تتحرك، تظهر، وتتميز، منذ فجر التاريخ لنحو من ستة آلاف سنة خلت. فكانت كل حقبة من حقبه تقدم. في هذا الموضوع، للحقبة التي ستلي، وتلقي الضوء على الحقبة التي سبقت. وهو قد إنطلق، في بحثه، من هذا المنطلق، وركز الكتابة عليه. وله في الموضوع دراسة، ومحاضرات، ومؤلفات وافرة البهاء. غير أنه، أخذ بالاعتبار تشوق القارئ إلى معرفة المراحل الأخيرة لبروز الشخصية اللبنانية المميزة، رأى أن يبدأ كلامه، في هذا المقال، منذ الفتح العثماني (١٥١٧-١٩١٨) على أن يعود، في المقالات التالية التي يعدها لقراء الفصول، إلى المراحل السابقة، بدءًا بأول بزوغ التاريخ، تمشياً مع خطواته المنهملة، حتى يصل إلى يومنا الحاضر.

في عام ١٥١٧٬ سحق الأتراك العثمانيون، وهم مسلمون سنيون، جيوش الأتراك المماليك، المسلمين السنيين أيضاً، في معركة مرج دابق قرب حلب ثم في القاهرة واستولوا على بلدان الشرق الأدنى. فأعلن السلطان العثماني سليم الأول نفسه خليفة رسول الله وأميراً للمؤمنين.

أما السوريون والمصريون فكانوا كما في الماضي القريب والبعيد، غير مبالين بالمعارك الدامية الدائرة حولهم بين العثمانيين والمماليك، في حين أنهم كانوا رهاناً لها. ذلك أنه، منذ زوال دولة الخلفاء الأمويون ومركزها دمشق، عام٧٥٠ ، كانت جميع الدول الإسلامية التي تعاقبت سيطرتها، كلياً أو جزئياً، تتابعا أو في آن واحد، على بلدان المشرق (مصر، سوريا، لبنان، العراق)، كالعباسيين، والبهويين، والطولونيين، والاخشيديين، والفاطميين، والسلجوقين، والأيوبيين، والمماليك، كانت قد دابت على جعل كابوسها، ثقيلاً على الشعوب المحلية، إسلامية كانت أو غير إسلامية. وبما أن هذه الشعوب باتت غير مبالية بالتغييرات السياسية، بدت وكأنها أصبحت مستسلمة وخاضغة للطغيان. فقد تلاشت الحمية عند هذه الشعوب منذ زمن بعيد وأصبحت النفوس في يأس تام.

العهد العثماني

عهد إنحطاط وبؤس ودمار

وفي عهد الدولة العثمانية، كما في عهود الدول الإسلمية المختلفة التي تعاقبت منذ عدة قرون في هذا المشرق، كانت الطوائف الدينية غير الإسلامية السنية، على إختلاف انواعها، تعتبر رعايا من درجة أدنى، وحتى من الأعداء المحتملين. أما السنيون المحليون، فمع أنهم كانوا مستبعدين مثل غيرهم من قبل السلطة التركية ذاتها، إلا أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم متفوقين على موطنهم غير السنيين رفعة وشرفا.

كان العهد العثماني عهد إنحطاط إقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي. فكان نسيجاً من المظالم والخيانات والمجازر والحروب ما بين الباشوات أو مع جيش الإنكشارية.. وتسرب هذا الفجور السياسي اللاأخلاقي من الباشوات الأتراك إلى الأمراء وإلى العائلات الحاكمة المحلية “٢”.

وإذا كان نشاط مدن الساحل اللبناني قد توقف في عهد المماليك حتى غدت قرى كبيرة مقفرة من السكان ويعمها الخراب، فقد إزداد تدهور هذه المدن الساحلية مع بداية العهد التركي في أوائل القرن السادس عشر، وذلك بنتيجة حدثين هامين حصلا في زمن واحد تقريباً: الأول إكتشاف القارة الأميركية من قبل الإيطالي كريستوف كولومب سنة ١٤٩٢ ، والثاني إكتشاف رأس الرجاء الصالح، في جنوب أفريقيا، من قبل البحار البرتغالي فاسكوده غاما سنة ١٤٩٧.

فالإكتشاف الأول، وجه نشاط واهتمام الشعوب الأوروبية وهجرتهم نحو العالم الجديد، فأهملوا العالم القديم. أما الإكتشاف الثاني، أي رأس الرجاء الصالح، فقد قضى على الطريق العالمي الذي كان يوصل أوروبا بالهند والصين مروراً ببلدان الشرق الأدنى، وحول هذا الطريق إلى جنوب القارة الأفريقية. فكانت النتيجة أن تخلت منذ ذلك الحين اسكندرية مصر والمرافئ السورية اللبنانية عن تجارة الشرق الأقصى لصلح بلدان أوروبا الواقعة على شواطئ المحيط الأطلسي: إسبانيا، البرتغال، فرنسا، هولندا، انكلترا إلخ.. مما دفع بمدن الشرق الساحلية إلى إحتضار بطيء. وقد حدث الشيء نفسه للمدن البحرية الإيطالية ولجنوب فرنسا.

ففي بلدان هذا الشرق، الذي جعلت منه النكبات صحراء شاسعة من الخراب والعبودية، كان لبنان الجبلي الريفي واحة سلام وحرية وأمن وملجأ للإستقلال القومي.

بروز الذاتية الجماعية

للجبل اللبناني

قومياً وسياسياً

منذ بدء العهد العثماني المظلم، ارتسمت الذاتية الجماعية للجبل اللبناني قومياً وسياسياً ونشأت امارات المعنيين والشهابيين، التي كانت الخلف البعيد لفينيقيا القديمة، والمعالم الأولى لدولة لبنان الكبير الذي انشئ عام ١٩٢٠ والذي كان السلف المباشر للجمهورية اللبنانية المعاصرة.

ففي زمن هذه الإمارات، كان الأمراء والزعماء المحليون ينعمون بنوع من الاسقلال الذاتي تجاه السلطة المركزية العثمانية وكان هؤلاء الرؤساء الإقطاعيون، والمجموعات البشرية التي يسوسونها يؤلفون فسيفساء من الطوائف الدينية والسياسية شبه المستقلة، وقد ضمها العثمانيون إلى سلطتهم عن طريق الإستتباع الإقطاعي، وبروابط الضرائب، على غرار ما فعل السلاجقة والمماليك من قبل.

إن امارة فخر الدين المعني الثاني (١٥٨٥-١٦٣٥) كانت تمثل المعالم الأولى للبنان المعاصر. فإن مجموعة التكتلات الطائفية التي كان يتألف منها سكان هذه الإمارة، كانت الطلائع الأولى للمجتمع الوطني أو للأمة اللبنانية التي برزت بعد ١٩٢٠ ٬ خصوصاً منذ ۱۹٤٣. فمنذ عهد فخر الدين الثاني، أخذت هذه الجماعات الطائفية المختلفة تتطور معاً، باتجاه إتحاد فدرالي واقعي. أما النزاعات التي عرفتها، غالباً فيما بعد، هذه الجماعات الطائفية بين بعضها البعض، فكان الباعث لها في أكثر الأحيان رغبة كل واحدة منها في إعادة إنشاء إمارة فخر الدين الثاني لصالحها الخاص، أي تحقيق الوحدة السياسية والجغرافية لجميع اقاليم البلاد تحت سلطتها.

ومنذ عهد فخر الدين الثاني، بدأ المجتمع القومي اللبناني، الذي يمكننا أن نسميه ضمنياً إتحاد مختلف الطوائف الدينية في لبنان، بدأ يعي وحدة مصيره، حتى أصبح فيما بعد مجتمعاً قومياً متعدد الطوائف، هو الأمة اللبنانية.

ازدهار جبل لبنان وكثافة سكانه

وإنحطاط المناطق التي

يحكمها الأتراك مباشرة

كان من الطبيعي أن يوافق النظام الإقطاعي في سوريا، الذي بدأت خطوطه الكبرى منذ عهد الدولة العربية الأموية وعاصمتها دمشق، تسلط طبقة المحاربين، بسبب ما لذلك النظام من لا مركزية سياسية في تكوينه، مما أدى إلى إلغاء معالم السلطة العامة. وكانت الأرض، بين أيدي الإقطاعيين الغرباء الذين يتقاسمونها، مورداً للثروة وآلة للتسلط. وفي مجتمع زراعي بكامله طرباً، كان كل قسم من البشر يشكل في هذا المجتمع دولة صغيرة مجهزة بحكومة خاصة.

وبعد ممارسة هذا النظام الجائر طوال قرون عديدة، كان بنتيجته إن عم الخراب الكامل بلدان المشرق، التي كانت الزراعة موردها الإقتصادي بالدرجة الأولى. وقد افتقرت شيئاً فشيئاً عدة مناطق سورية وفلسطينية. فغدا عدد السكان، حوالي نهاية القرن الثامن عشر، ربع ما كان في عهد البيزنطيين والخلفاء الأمويين، حين كان هذا العدد يراوح بين سبعة وثمانية ملايين نسمة. وفي بدء القرن التاسع عشر، لم تكن قرى (البكاليك) الطبيعة لحلب، والتي كانت تعد ٣٢٠٠ قرية، كما كانت مسجلة في لوائح الضرائب، سوى ٤٠٠ قرية فقط “٣”.

قرب نهاية القرن الثامن عشر، بينما كانت مناطق شرقي المتوسط العثمانية قد آلت خراباً شبه كامل، وقد أقفرت من السكان، كان جبل لبنان، حيث تسود الحرية والأمن، مزدهراً يضيق بسكانه. ففي وسط لبنان كان عدد سكان منطقة كسروان الوعرة (١١٥ ألفاً) يعادل ضعفي سكان فلسطين بالذات (٥٠ ألفاً). وكانت النسبة نفسها في كثافة عدد السكان موجودة في باقي المناطق اللبنانية “٤”.

وبالمقابل  كانت مدن الساحل اللبناني (صيدا، وبيروت وطرابلس)، التي يحكمها الباشوات العثمانيون مباشرة، تعيش في إنحطاط تم. ويذكر رحالة ذلك العهد أن عدد سكان كل من صيدا وبيروت وطرابلس كان يبلغ ما يقارب الخمسة آلاف، وسكان دمشق خمسة عشر ألفاً ومثله في حلب.

وفي العهد ذاته كم الكاتب الفرنسي فولني بزيارة مصر ولبنان سنة ١٧٨٣٬ فعدد سكن مصر بمليونين وخمسماية ألف نسمة، وسكان القاهرة بمئتي وخمسين ألفاً. أما الإسكندرية، التي كانت تعد سابقاً أكثر من نصف مليون، فأمست ضيقة صغيرة المساحة تعد نحو ستة آلاف ساكن.

إن هذا الإختلاف في الحياة الإجتماعية وفي الإزدهار الإقتصادي بين سكان جبل لبنان وسكان البلدان المجاورة المحكومة مباشرةً من قبل الآسيويين الغرباء، ناتج بالدرجة الأولى من معالم لبنان الجبلية، التي سعادة اللبنانيين على المقاومة ضد الأعداء وعلى التضامن فيما بينهم.

يقول فولني عن منطقة الموارنة في لبنان، أن طبيعة الأرض التي توفر الدفاع في كل مكان، اعطت كل قرية، بل غالباً كل عائلة، وسيلة للمقاومة بقوها الخاصة، وبالتالي لمنع سلطة واحدة (وطنية أو أجنبية) من ازدياد نفوذها.. هذا المجتمع،.. الذي كان يحيط به منذ نشأته اعداء أقوياء لم يستطع مقاومتهم إلا بفضل وحدة ابنائه. ولم تقوم هذه الوحدة كما نعلم إلا على قدر ما إمتنع الموارنة عن إضطهاد بعضهم بعضاً وإنصرف بالتناوب إلى حماية أنفسهم وممتلكاتهم. وهكذا.. صان الموارنة أنفسهم إلى هذا اليوم من الظلم والاستبداد والاضطرابات التي تنج عن الفوضى “٥”.

ويلاحظ فولني بحق، أن معنويات الشعوب، كمعنويات الأفراد، ترتبط بنوع خاص بالوضع الإجتماعي الذي يعيشون فيه.. فالناس الذين يتمتعون بحقوقهم الطبيعية وتكون علاقاتهم موجهة من قبل ساداتهم.. لا يستطيعون أن يكونوا ذوي رغبة شديدة في القتال.. أما الذين يقاتلون من أجل قضيتهم الخاصة.. فلا تنقصهم الشجاعة “٦”.

الحياة الفكرية والثقافية

في لبنان والشرق الأدنى

منذ القرن الحادي عشر حتى

زوال الدولة العثمانية سنة ١٩١٨

إن الغزوات والسيطرات الآسيوية التي تعاقبت على بلدان الشرق الأدنى، إبتداء بالأتراك السلجوقيين في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، قضت على الإزدهار الإقتصادي والحياة الثقافية والأدبية والعلمية وعلى الحضارة في هذا الشرق، الذي كون وطور الحضارات الإنسانية الأولى في التاريخ، وأنشأ الحضارة العربية الإسلامية التي عمت الشرق والغرب في ظل الخلفاء العباسيين في بغداد. وفي القرنين الثالث عشر والرابع عشر، فترت الحركة الأدبية. وفي القرن الخامس عشر، كان الأدباء في الشرق العربي يكتفون بدرس مؤلفات الأقدمين. ومن القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر، لم يعد الأدب الأخبار التاريخية الخلية من النقد ومن جمال الأسلوب.

وفي هذه القرون الوسطى المظلمة التي جثمت فوق الشرق الإسلامي، ظل البلد اللبناني، الذي تركز في جباله، ينعم بحياة من الحرية والطمأنينة والإزدهار النسبي، انعشت فيه الحياة الفكرية، فتحولت القرى إلى تجمعات بشية كبيرة، ولم يتوقف عدد المدارس والاديرة والكنائس عن الإزدياد. وقد اسهمت الارساليات الأوروبية، من كقبل كنيسة روما، في تقدم الأفكار.

وفي القرن السادس عشر تأسست في روما مدار للموارنة. وفي لبنان بالذات انشأت مدارس اكليريكية لإعداد إكليروس مثقف. ومنذ سنة ١٦٩٦٬ تأسست مدارس صغيرة في قرى عديدة من الجبل، كان الرهبان الموارنة يعملون فيها. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، فتحت مدارس، أشهرها مدرسة عينطورة الفرنسية التي أسسها اليسوعيون سنة ١٧٢٨، ثم خلفهم فيها اللعازاريون سنة ١٧٨٣. وفي هذين القرنين أخذ المسيحيون في لبنان يتلقنون العلوم العربية، بعد أن تخلوا عن لغتهم القومية الأصلية، وهي الأرامية المسيحية أي السريانية.

ومنذ سنة ١٦٠٠، انشئت مطبعة، مشتراة من أوروبا، في دير مار انطونيوس قزحيا الماروني في لبنان الشمالي، حيث كانت تطبع مؤلفات سريانية وعربية، وبعد قرن من هذا التاريخ تأسست مطبعتان الأولى في حلب والثانية في دير الشوير من أعمال لبنان الأوسط. أما في مصر، فأولى المطابع العربية جاءت مع حملة بونابرت الفرنسية سنة ١٧٩٨.

في القرن التاسع عشر، دفعت نتاجات المفكرين اللبنانيين ومؤلفاتهم كثيرين من الشبان إلى الإقبال على حركة النهضة الفكرية، هذه الحركة التي كانت أساس النهضة العربية الحديثة. وبعد منتصف القرن التاسع عاشر، دأبت الشبيبة المسيحية على درس لغة القرآن المقدسة والآداب العربية. فبرزت في هذا الحقل أسماء مشهورة وأنشأ عدد آخر من اللبنانيين الذين هاجروا إلى مصر الصحافة المصرية الحديثة، باعثة ومرشدة صحافة المستقبل في الشرق الأدنى.

في هذا الوقت كانت بيروت مركز حركة التعليم بجامعتيها: الأميركية (التي انشئت سنة ١٨٦٦) واليسوعية (التي انشئت سنة ١٨٧٥) ثم بمدارسها الثانوية. وقد أحدث تقدم التعليم في لبنان حركة واسعة في الطباعة والصحافة. فكانت المطابع في لبنان أهم مطابع الشرق الأدنى. ولم تقل الصحافة فيه نشاطاً عن الطباعة.

واذا كانت فينيقيا في أوائل الألف الأول قبل الميلاد، قد نقلت إلى بلاد الاغريق، التي كانت قد هبطت إلى الحياة الهمجية بعد ١٢٠٠ قبل الميلاد، الأبجدية الفينيقية والحضارة الشرقية، فلبنان الحديث، في القرن التاسع عاشر للميلاد، إستعاد دوره القديم، ولكن بإتجاه معاكس، إذ أنه نقل إلى الشرق الأدنى، الذي كان قد سقط من جديد في الظلام، العلم والثقافة اللذين نهلهما من العالم الغربي.

لبنان

من الحرب العالمية الأولى

حتى الإستقلال التام (١٩١٤-١٩٤٦)

منذ بداية الحرب الأولى (١٩١٤-١٩٤٦)، ألغى العثمانيون، بعد انحيازهم إلى جانب ألمانيا، الإستقلال اللبناني الداخلي الذي ضمنته الدول الكبرى عامي ١٨٦١ و ١٨٦٤، فإحتلوا لبنان عسكرياً وعينوا عليه حاكماً تركياً (١٩١٥). ومنذ السنة الثانية للحرب، أحدث الضيق الذي نتج عن الحصار البحري الذي ضربه الحلفاء الفرنسيون والإنكليز على الدولة العثمانية، وعن سوء الإدارة التركية، مجاعة مروعة في لبنان، ذهبت بسكان مناطق بكاملها. وقضى انهزام الأتراك عام ١٩١٨ على الدولة العثمانية، فوضع الحلفاء المنتصرون يدهم على اراضيها الشاسعة وقسموها بين عدة دول.

وفي سنة ١٩١٨ ، تحرر لبنان من وصاية السلطنة العثمانية، التي قضى عليها إنتصار الحلفاء، فإستعاد حدوده الطبيعية، والتاريخية مع بيروت كعاصمة له. وفي عام ١٩٢٠ ، أعلن لبنان دولة مستقلة بإسم لبنان الكبير تحت وصاية فرنسا، التي عينتها عصبة الأمم كدولة منتدبة على لبنان وسوريا (١٩٢٠). وفي سنة ١٩٢٦٬ تحولت دولة لبنان الكبير إلى جمهورية تنعم بدستور ديمقراطي برلماني، في ظل الإنتداب الفرنسي.

وخلال الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ – ١٩٤٥) نعم لبنان، الذي بقي مفتوحاً على البحر، بإزدهار إقتصادي كبير. وسنة ١٩٤١ ، أعلنت فرنسا الحرة إستقلال لبنان وإعترفت به الدول الكبرى. وسنة ١٩٤٥ حصل لبنان على مقعد في هيئة الأمم المتحدة، وهو أحد أعضاء المؤسسين لجامعة الدول العربية. وسنة ١٩٤٦ تم جلاء قوات الإحتلال الأجنبية (الفرنسية والبريطانية) عن الأراضي اللبنانية.

وكما في تاريخه القريب والبعيد، لا يزال لبنان في أيامنا هذه، يلعب دوراً متفوقاً في الحياة الفكرية في الشرق الأدنى. ولا تزال بيروت، عاصمة لبنان السياسية والإقتصادية، مركزاً نشطاً في الحقل الثقافي العربي. وعلاوة على جامعاتها ومؤسساتها التعليمية وصحافتها ومعاهدها ومجامعها وجمعياتها الثقافية والعلمية والفنية ودور النشر فيها ومطابعها الحديثة إلخ، فبيروت هي أيضاً مركز إشعاع للثقافة، حيث يكتب فيها وينشر بجميع اللغات أدباء وشعراء ومفكرون وفلسفة ومؤرخون وعلماء لبنانيون وغير لبنانيين.

وكما في الماضي أيضاً، فإن لبنان، ولغته الوطنية هي العربية، منفتح كل الإنفتاح على جميع الثقافات الأجنبية، وبخاصة الغربية منها. وحياته الثقافية تقتبس من الغرب الكثير من عناصره، لكنها مع هذا تحافظ على طابعها الخاص وعلى اصالتها العريقة. فاللغات الأجنبية انما هي لغات ثقافية وسائل لا غنى عنها للتطور والتقدم. فموقع لبنان ورسالته في الشرق الأدنى حملا دائماً اللبنانيين عبر تاريخهم الطويل على التكلم وحتى على التثقف بلغات أجنبية عدة ولنتذكر أن فروض التلاميذ التي وجدت في أنقاض مدرسة في جبيل تعود لحوالي سنة ٣٢٠٠ ق.م. كانت مكتوبة باللغة الأم، أي الفينيقية، وبالغة البابلية. كما كانت اللغة المصرية تعلم أيضاً.

فالماضي يفسر الحاضر ويناور المستقبل.

الطابع المميز

للبلد اللبناني المعاصر

إن لبنان، بفضل موقعه الجغرافي، له ميدانان أو واجهتان، تجعلان منه بلداً برياً وبحرياً، شرقياً ومتوسطياً. وقد نتج عن هذا الاتجاه المزدوج توازن خاص، يكاد فريداً من نوعه.

فكون لبنان بلداً برياً قارياً ملتحماً جغرافياً بالشرق الآسيوي. فهو مشدود إلى هذا الشرق بروابط طبيعية لا يمكن تحطيمها. فمن هذه الناحية هو قاري شرقي وآسيوي. ولكونه، من الناحية الجغرافية والإقتصادية والثقافية والتاريخية. قطعة أساسية من الخارطة السياسية والعسكرية للشرق العربي، فهو أيضاً جزء مكمل لهذا الشرق. والتاريخ برمته، قديمه وحديثه، يشهد بأن لبنان عنصر لا غنى عنه من عناصر كل خطة سياسية أو عسكرية في الشرق العربي.

ومقابل هذا، يتطلع لبنان إلى الخارج، إلى الأفق البعيد، منفتحاً على البحر الأزرق من خلال واجهته البحرية. تجذبه جواذب غير قارية، فينطلق بمغامراته البعيدة باتجاه ما وراء البحار. فلبنان الساحل هذا، المنفتح على البحر، التوسعي والإستعماري، الذي يتصل مباشرة بأفريقيا وأوروبا وأميركا، ينتمي إلى مجموعة حضارات حوض البحر المتوسط. هذه الحضارات هي أسلاف الحضارات الغربية الحديثة، التي أسهم لبنان، بطريقة مجدية، بتطويرها عبر الآلاف الماضية من السنين.

ومن جهة أخرى، نجد أن جوار لبنان للبحر، قد نمى بين ابنائه، كما في جميع البلدان المماثلة، طرازاً خاصاً من الحضارة والإقتصاد. أي مجتمعاً بحرياً تجارياً يتجه نحو التبادل الإقتصادي. وبالتالي يكون مفتوحاً للبضائع وللأفكار الواردة من الخارج: إن هذا النوع من المجتمعات هو متعاطف مع جميع البلدان، وهو ديمقراطي متسامح متحرر معتدل ومولع بالتقدم وبالحياة الفكرية والفنية.

ومقابل ذلك نجد أن الأقاليم القرية تعمل بين ابنائها لإنماء طراز من الإقتصاد والحضارة يختلف عن الطراز السابق ولربما يعارضه. ويتمثل هذا الطراز بمجتمع مغلق، قومي محض، يكره الأجانب إلى حد ما، ومنطو على ذاته. وما يوحد أفراد هذا المجتمع انما هو تضامن اتني متن، قومي، ديني، ثقافي وسياسي، تفرضه الدولة أو القبيلة، ويكون هذا المجتمع إقطاعياً، محباً للسلطة والسيادة. وهو توسعي عسكري محب للحروب والفتوحات، ثروته الوحيدة هي الأرض. والوسيلة الوحيدة لإنمائها انما هي الفتح، أي الإستيلاء على أراضي الغير.

وخلاصة هذه الملاحظات هي أن لبنان ليس بلداً متوسطياً بحرياً بوجه عام، كما ليس قارياً شرقياً كاملاً. وإنما هو مركب من العناصر المختلفة التي يتكون منها المجتمعان المذكوران معاً. وبهذه الميزة الخاصة، يمتاز لبنان عن كامل بلدان الشرق المتوسطي أو العربي التي هي بكليتها قارية تقريباً. وبفضل هذه الشخصية المزدوجة، نجد في لبنان مقدرة على مخالطة البلدان الغربية منها، فهذه تفوق مقدرة جميع شعوب حوض البحر المتوسط والغرب، لكون لبنان متصلاً جغرافياً وثقافياً بالعالم العربي، نراه قريباً من الجو العربي بطبيعته ونفسيته. وهذا الجو لا يدهش لبنان، ولو أنه يحمل لو غالباً بعض المخاوف.

إن علاقات لبنان بالبلدان القارية، كما علاقاته ببلدان ما وراء البحار، هي علاقات إلزامية في الإتجاهين معاً، لكونها مفروضة عليه من خلال حاجات وجوده الحيوية، فالتدهور الإقتصادي وعدم الإستقرار السياسي في البلدان القارية يؤثران على إقتصاد مدن لبنان الساحلية وعلى حركاتها التجارية. كما أن إغلاق البحر من ناحية أخرى، يؤدي بقضاء محتوم، إلى إنهيار حركة المرافئ اللبنانية التجارية والسياحية وإلى خنق اقتصادياتها. واذا ما انحصرت موارد اللبناني بالمواسم الزراعية وحدها، ولأن مساحة أرضه الصالحة للزراعة ضيقة نسبياً، فعليه عندئذ أن يرضى بحياة إقتصادية متوسطة، كتلك التي كان يهرب منها غالباً، في الماضي كما في الحاضر، بهجرته إلى بلدان ما وراء البحار.

وينتج عما سبق ان الطابع الأصيل للنفسية اللبنانية يتاتى عن إختلاف العوامل الطبيعية لمحيطه الخارجي، وعن نمط الحياة الذي تفرضه هذه العوامل. وقصارى القول أن الموضوع هو موضوع مجموع متناقض، لكنه متماسك، يتجه في لوقت ذاته نحو القارة ونحو البحر، نحو الماضي كما نحو المستقبل. وبناء على ذلك، وعندما نتكلم عن وجه لبنان الحالي المزدوج وعن طابعه الأصيل ودوره الخاص، لا يكفي أن نفسر هذه القضايا وكأنها عبارة عن الوحدة السياسية لطائفتيه الكبيرتين، المسيحية والإسلامية، الواجهتان الجغرفيتان لهذا البلد الصغير، اللتان تنفتح واحدة منهما على البحر والعالم الغربي، والأخرى على القارة والعالم الشرقي، بالإضافة إلى المظاهر المعقدة التي يحدثها هذا الإتجاه المزدوج في الحقول الإقتصادية والنفسية والثقافية والإجتماعية والسياسية، بإستقلال تام عن فكرة العنصر أو الدين، هذه جميعاً تفرض على اللبنانيين وحدتهم الإجتماعية والقومية والسياسية.

وفي النهاية، إن قسمات لبنان الطبيعية هي في أصل ثرواته البشرية. فالجغرافية انما هي التي مكنته من الولادة وأمنت بقاءه.. وفي هذا المجموع، لكن من الجبل والشاطئ دوره الخاص. فالجبل يضفي على البلد سمة ذاتيته الأساسية، فيكون الخلوة السياسية والعسكرية التي تولد الإستقلال.. والشاطئ ومرافئه وسهوله انما هي أساس اقتصاده.. الوحدة في التنوع.. الجو النفسي يتفق والجو الجغرافي. وإن في الإقتصاد أو في السياسة، نجد في كل مكان هذا الإنجذاب المزدوج، فهو كان محفوراً منذ البدء في الوضع الجغرافي.

الخلاصة

قصارى القول، إن لبنان الحاضر، كتكوين سياسي وقومي. انما هو وليد الجغرافية والتاريخ، فهو الحصيلة الحالية لتطور الشعوب التي عاشت في هذا البلد منذ زمن ما قبل التاريخ. وأرضه التي  تؤلف فردية جغرافية طبيعية، عملت دون إنقطاع، خلال ألوف السنين الماضية، لجعله كياناً جماعياً وإقليمياً متميزاً، مؤلفاً من مجتمع قومي وطني متجانس إلى حد ما، تحققت وحدته  السياسية، غالباً، بإرادة الجماعات الطائفية والإجتماعية المختلفة التي تؤلف، بصرف النظر عن فكرة العرق أو الدين.

فالأوضاع الطبيعية والإقتصادية التي ألزمت سكان لبنان بنوع من الحياة والنشاط ووسمتهم بطابع خاص، قد ميزت هذا البدل عن باقي بلدان الشرق الأدنى، التي يعتبر جزءًا مكملاً لها. فلبنان دولة فتية انبعثت منذ زمن يسير إلى حياة الإستقلال. ومع هذا فهو من أقدم البلدان في العالم. إذ ولد من التاريخ منذ نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، في الزمان ذاته الذي ولدت في التاريخ فيه مصر ما قبل الفراعنة، ودولة أرض الرافدين السومرية، اللتان تعتبران مركزي أول التجمعات الزراعية والمدنية ومهدي أولى الحضارات التاريخية، الجدات القديمات لحضارات العالم الحديث.

ومنذ فجر التاريخ، وطوال التطور المتوالي عبر ألوف السنين الماضية، تميز سكان لبنان (من كنعانيين، وفينيقيين، ومن هم قبل اللبنانيين واللبنانيين) بذاتية جماعية قوية ذات صفات نفسية خاصة وذات رسالة بجوهرها تجارية بحرية وروحية وثقافية، تربطها في خطوتها العامة قربى وثيقة بخصائص اللبنانيين الحاليين.

وكمعظم البلدان الأخرى، عرف لبنان عبر تاريخه الطويل حقبات من التجزؤ والكسوف شبه الكلي، حيث كانت تدوم حقبات هذه قروناً بكاملها، كان السكان يكابدون خلالها الدمار ويعانون العوز والإستعباد. ولكن ما إن كانت تزول تلك الظروف القاهرة، حتى كان سكان لبنان القدماء يعودون، بشكل واضح، لرسالتهم الموروثة عن الأجداد، وللطبائع المتميزة التي اتسموا بها دائماً عبر تطورهم الطبيعي السابق.

يلاحظ المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي A. Toynbee  أن اللبنانيين الحاليين ليسو خلفاء الفينيقيين  بالمعنى الحصري للكلمة.. ومع هذا فإن الفينيقيين واللبنانيين الحديثين يمتلكون معاً تقليد ومؤهلات غاية في الأهمية. فكلاهما أفاد من ملجأ طبيعي _ أبحر للفينيقيين والجبل للبنانيين _ لكي ينصرفوا للأمل التجارية بكليتهم. وكلاهما انشء إمبراطورية إقتصادية في الغرب، وكلاهما أقام في مستعمرات للتجار في جميع أنحاء العالم الغربي المعروف في أيامه.

ويقول المؤرخ الفرنسي رانا غروسه: إن فينيقيا (لبنان اليوم)، بواسطة الممر الطبيعي الذي يوصل بين طرابلس وحمص، تتصل بلا شك بسوريا الداخلية. ولكنها تتطلع بأجمعها نحو البحر المتوسط ولا تحيا إلا للمتوسط وبه. وإن الجبل الذي تستند إليه فينيقيا، الجبل القريب، الجبل الذي تنحدر منه نحو البحر يقذفها إلى البحر…

إن مهارة الفينيقيين البحرية والتجارية تمخضت عن مواهب فكرية.. فبينما تجمدت الحضارات الكبيرة والمجاورة (البابلية والفرعونية) في الكتابات السماوية والهيروغليفية. فإن النبوغ الفينقي إبتكر الأبجدية منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ثم إن الحضارة الفينيقية مع الحضارة الإغريقية قد حررتا الإنسان كفرد وأظهرتا شخصيات تاريخية مستقلة تقريباً عن بيئتها وزمنها هانيبعل.. تامستوكل.. السيبياد..

وفي عصرنا الحاضر، إستأنف لبنان إرسال ابنائه على كافة الطرقات البحرية التي تتجه نحو الغرب. انهم فينقيو الزمن الحاضر. فهم لا يكتفون كأسلافهم الأقدمين بالهجرة إلى أفريقيا الشمالية، بل إن محلاتهم التجارية منتشرة في دكار وفي بلدان ما وراء المحيطات البحرية، التي هي مجال جديد لمهارتهم ومهارات أسلافهم التقليدية عبر العصور الماضية “٧”.

إن الشخصية اللبنانية المميزة، على غرار لبنان نفسه، هي وليدة جغرافية هذا البلد وتاريخه الطويل وهذه الشخصية المميزة تتصف بخواص أساسية: النشاط التجاري البحري، والنشاط الفكري والثقافي، والتمسك بالإستقلال والحرية الفردية.

ينتقد البعض اللبنانيين إستهزاء بأنهم فينيقيون، قاصدين بذلك نعتهم بالمركنتيلية، أي بروح تجارية جشعة وبالولع بالربح المادي بشتى الطرق. وفاتهم أن الفينيقيون الأقدمين وخلفاءهم اللبنانيين الحاضرين، إذ يهتمون بالأمور الإقتصادية والمالية، فهم لا يهملون الأمور الروحية والفكرية والثقافية، كما يثبت ذلك نشاطهم ونجاحهم في كل هذه الحقول، إن في الوطن أو في بلدان الإغتراب.

يقول الكاتب الألماني المعروف اميل لودويغ، إن التاريخ مدينة أتينا (القديمة) يثبت نهائياً أن الشعوب يمكنها في وقت واحد أن تحب المال والفكر، التجارة والجمال.. إن مصادر حياتنا الروحية، جميعها تقريباً، مستوردة من اليونان ونادراً من روما. “٨”

جواد بولس

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *