أنت المثقّف و المفكّر و العلاقة بالسلطة
افراد صنعوها و مصطلحات للتحديد
علاقة المثقّف بالسلطة منذ القديم ، كانت مرتبطة ، كما الحال في كل زمن ، بنوعية الرجال الذين يمارسون الحكم، و خصوصاً اذا كانوا هم ذاتهم مثقّفين او يتذوّقون الثقافة .
ففي علم افلاطون و سقراط و ارسطو و بريكليس و شيشرون و ميكافيل ، و منذ القرن الثامن عشر حتى ايامنا هذه، كانت الطبقة الحاكمة ، كل واحدة في بلدها تتذوق الثقافة و تشجعها على عكس العصور التي كانت الطبقة النافذة فيها لا تتذوق الثقافة . ففي معظم العهود الماضية في اوروبا ، اهملت الثقافة .
و في بلدان الشرق الأدنى ، كانت الثقافة و العلوم قيد اعتبار و تشجيع ، ما دامت هذه البلدان تنعم بالأمن و الازدهار، ففي بابل و نينوى ، في العراق و في مصر الفراعة و في لبنان الكنعاني او الفينيقي ، بلغت الثقافة اوج مجدها. و في الخلافة العباسية في بغداد ظهرت الثقافة و عظمتها في القرن الاول للخلافة ( 750 – 850 ) وأنارت الشرق والغرب طوال خمسة قرون تقريباً . و بعد ذلك ، في عهد الآسيويين الاتراك وغيرهم خاصّة ، كان الشرق الأدنى ، مدى قرون عديدة ، يسوده الجهل و الفقر و الانحطاط الفكري و الاقتصادي و الثقافي .
في أغرب الاحايين الماضية ، لم يكن للثقافة تأثر غلى الحكام ، الا اذا كان الحكام مثقّفين ، مثل عهد بركليس و بعض أمثاله .
*
ولعل الثقافة في لبنان ، منذ القرن التاسع عشر و على الأخص في القرن العشرين كانت صنيعة الافراد ، لا السلطة او الحكام . و حتى منذ الاستقلال لم تفعل السلطة شيئاً جدياً في سبيل الثقافة . والى اليوم ، لم توجد العهود التي تعاقبت في الدولة وزارة للثقافة ، و لا كان تشجيعها للثقافة او المثقفين ، مع ان هؤلاء هم فخر لبنان و بفضلهم يقول البنانيون ان بلادهم منارة العلم في الشرق .
*
ان الثقافة ، بوسطة المثقفين ، ترقي طبقة من الشعب ، تساعد بدورها ارساء قواعد السلطة في البلد.
*
تعاون القطاع الثقافي و القطاع السلطوي في لبنان ، يرتبط باعتناء السلطة بالمثقفين ، و تشجيعها الكتّاب و الأدباء و المجامع و الجمعيات الثقافية و المؤلّفة و خلق اكاديميات لمختلف انواع العلم والادب و العلوم الخ. و لعل مستقبل علاقة الثقافة بالسلطة يرتبط بشخصيات الذين سيمارسون الحكم مستقبلاً في لبنان و المستقبل لله .
و تشجيع الثقافة لا يتم تلقاء . فالجنرال ديغول في فرنسا ، مدّة وجوده في سدّة رئاسة الجمهورية ، كان يرافقه في صورة دائمة ، كوزير للثقافة ، اكبر كاتب و فيلسوف في فرنسا ، هو اندريه مالرو .
*
لا بد من ان احدد بعض المصطلحات في الواقع الثقافي ، مذ اصابها لبس و غموض .
- الثقافة : هي ” مجموعة معارف و خبرة و علوم مكتسبة ، يستوعبها الفكر فتنصهر فيه وتمكن من انماء حاسّة النقد و الادراك و التقدير ” .
قيل بحق ” ان الثقافة هي ما يبقى في الزمن بعد ان ينسى الانسان ما تعلّم ” .
هناك ثقافة فلسفية وتاريخية وأدبية وعلمية وفنية . وهناك ثقافة غامة في الميادين المعتبرة ضرورية للجميع.
وهناك اشخاص قضوا حياتهم في الدرس وفي التعمّق في العلوم الرياضية وفي المذاهب الاجتماعية والعلمية ، دون ان يكونوا مثقفين ، وهناك ايضاً اختصاصيون اذكياء وبعضهم عباقرة في اختصاصهم ، لا يعرفون غيره فهم تالياً غير مثقّفين .
و من عناصر الثقافة : الفلسفة و التاريخ .
- الفلسفة : هي مجموعة تصورات وعقائد وبحوث موضوعها ادراك الكائنات والاشياء ودور الانسان في العالم ، آخذة في اعتبارها المشكلات في عمومياتها .
- التاريخ : أثبت العلم الحديث ” ان التاريخ هو سياسة الماضي ، و سياسة الحاضر هي تاريخ المسقبل ” . وان السياسة هي بنت التاريخ ، و التاريخ ابن الجغرافيا ، و الجغرافيا لا تتغير نسبياً” .
و في منظار العلم ، ان التاريخ هو البحث عن الاسباب التي أنتجت الأحداث الماضية .
فالأحداث الماضية هي الاسباب و النتائج معاً . و هذه الاسباب منها ما هو عميق و بعيد ، و منها ما هو مباشر. فالاسباب العميقة و البعيدة هي التي تحتّم الاحداث او تجعلها ممكنة بينما الاسباب المباشرة تثيرها و تفجرها . و لسوء الحظ ، و في اغلب الاحيان ، هم رجال السياسة المسؤولون يعالجون الاسباب المباشرة التي قد تسكّن الأزمة مؤقّتاً ، و لا تشفي الداء.
فكما اطباء الجسم اطباء الافراد ، و كما رجال الدين اطباء النفوس ، كذلك المؤرّخون اطباء المجتمعات البشرية.
يقول الشاعر : ” و من وعى التاريخ في صدره ، اضاف أعماراً الى عمره ” .
و يقول أحد الباحثين في علم الاخلاق : ” ان الفلسفة تتغلّب بسهولة على الآلام الماضية و على الآلام المستقبلية لكن الآلام الحاضرة تتغلب عليها ” .
و بخلاف الفلسفة ، فالتاريخ ، الذي يعرض المشكلات الماضية و يشرحها و يفسرها ، يساعد على تفهّم المشكلات الحاضرة و على حلّها .
- الديموقراطية :و على ذكر الديموقراطية ، أتذكر قول بعض المؤرّخين و علماء المجتمع : ” ان كل مصائب الانسان مصدرها كون الشعوب تستعمل كلمات لم تحدد معناها ” . و ” ان الشعوب تتخاصم غالباً و تتحارب من اجل كلمات ” . و نفسية الشعوب و الجماهير تعلمنا : ” ان الشعوب و الجماهير ، في الحياة السياسية ، تتفاهم و تتقارب او تتباعد و تتعارض على اساس كلمات ، اكثر من الاشياء “.
يتغنى اللبنانيون ، منذ الاستقلال ، بالديموقراطية التي ينعمون بها . و لكنهم لم يحددوا هذه الديموقراطية . اذ فكروا أنّها نوع من الفوضى و سيطرة القوي على حقوق الضعفاء و حرياتهم .
و تحديد الديموقراطية الاصلية ، مطبّقة في العديد من البلدان المتطورة ، هو : ” ان الديموقراطية هي حكم القوانين و الانظمة ” و هي أيضاً “احترام حقوق الغير و حرياتهم ” .
فهل الديموقراطية كهذه كانت مطبقة في لبنان منذ الاستقلال ؟ أقول صراحة : لا ، و متى فقدت الديموقراطية عناصرها الاصلية ، غابت الحرية الصحيحة …
- الحرية :اما الحرية ، فهي حالة شخص غير خاضع في صورة مطلقة لشخص آخر ” .
و في عالم المجتمع و السياسة تكون الحرية ” استطاعة الانسان ان يعمل ، ضمن مجتمع منظم ، وفقاً لارادته الخاصّة في حدود انظمة معينة ” . هناك الحرية المدنية و الحرية السياسية و الحرية الدينية و المعتقد و الصحافة الخ .
فالحرية ليست الفوضى ، ليست النظام و لا تتعارض مع النظام. فالحرية ليست الفوضى ، ليست ضد النظام و لا تتعارض مع النظام . و بالعكس لا تحيا و لا تستمر الا بالنظام و الحرية تؤمنها القوانين الصحيحة .
يقول الفيلسوف الالماني نيتشه : ” ان الحرية فكرة عبيد ” ، اي ان الانسان حرّ في أعماق نفسه يظل حراً اينما وجد.
- الاستقلال :تحديده العلمي ” حالة شخص او شعب مستقل و حر في تدبير أموره ، في معزل عن تدخل الأفراد و الشعوب ” .
تتحمّس شعوب بلدان الشرق الأدنى ، عند ذكر كلتي الاستقلال و الحرية ، و تشمئز من كلمتي الاستعمار و الامبريالية …
ان الاستعمار على الطريقة القديمة زال ، لانه يكلّف المستعمر جهوداً عسكرية و نفقات مالية تفوق قيمة المنافع التي يتوخاها من البلد المستعمر.
يقول المؤرخ توينبي: “إن الإستعمار إختبار غير مستحب. ولكنه، عند معظم البلدان، ثمن يدفع لتعلم الحياة العصرية”.
يقول توينبي : ” في عصرنا الحاضر ، ان حيوية الشعوب و قوتها تقاسان بعدد الناس الملمين بالمعارف العلمية ، و الذين يملكون كفايات تقنية ” .
- الوطنية و القومية :الوطنية ، اي حب الوطن ، رغبة الانسان و ارادته . ان ينذر نفسه للدفاع عن وطنه ضد الاعتداءات الغريبة ، فالوطنية الحقيقة لا تحيا عادة الا في البلدان حيث يكون المواطنون احراراً و ينعمون بشرائع عادلة ، متحدين بقوة احترامهم بعضهم للبعض .
و القومية هي ” التحمّس للشعور القومي ، و التعلق العاطفي الحار بالامة او القوم الذي ينتمي اليه الانسان يرافقه احياناً روح معاداة للاجانب و ميل الى الانعزال ” .
يقول العالم العالمي أينشتاين مكتشف القنبلة الذرية : ” ان القومية مرض اطفال ” .
جواد بولس