حديث مع جواد بولس:
- الانسان يتحرك بميوله الطبيعية أكثر مما يتحرك بقواه العقلية
- الايديولوجيا تؤثر في الشعوب. كنوع من الحمّى ، لكنها ككل حمّى ، ظاهرة مؤقتة لأن مصدرها خارجي لا داخلي.
- ليس لبنان جزءا لا يتجزأ من الشرق العربيّ و حسب و إنما هو، الى ذلك ، جزء أساسيّ و فعّال …
بعد الأثر التاريخي الضخم الذي أرخ به الاستاذ الكبير جواد بولس لشعوب الشرق الادنى ، و الذي صدر في خمسة اجزاء ، يعمل الآن على اعداد جزء آخر يكون بمثابة خلاصة تركيبية للقوى الثابتة المحركة في تاريخ الشرق الادنى. و لئن كانت الاجزاء الاولى سفرا افقيا في الاحداث السياسية والثقافية والاجتماعية ، فان هذا الجزء سفر عمقي فيما وراء هذه الاحداث – في اسبابها وعواملها الثابتة.
و فيما يلي ، نقدم لقرائنا ، هذا الحوار الذي اجريناه مع الاستاذ الكبير حول بعض القضايا التاريخية – السياسية في هذه المنطقة العربية.
- أنا أشك ، شخصيا ، في أهمية التاريخ السياسي، لأن الحقيقة فيه، ” بعيدة “، غامضة – ولان كتابته متحيزة خاضعة للأهواء والمصالح. فكيف تمكن الافادة من ” وقائع ” هذا التاريخ، وبناء أحكام صادقة استنادا اليها ؟
– لا شك في أن امثولات التارخ ثمينة ، لأنها تفوق الاختبارات الشخصية. فكما ان للانسان المتقدم في السن اختبارات أكثر عددا من الشباب، كذلك التاريخ ، لأن أحداثه تمتد على مئات السنين أوألوفها. ولكن، لا يمكن الاستفادة من أحداث التاريخ الا بعد درسها بصورة علمية، لان سرد الوقائع لا يعلم، بحد ذاته، شيئا. فالعلم الحديث للتاريخ ، العلم بمعناه العميق ، يفرض على المؤرخين ان يستنتجوا من الاحداث الماضية ما يتكرر منها بصورة دورية ، وهذا التكرار يدل على وجود ما يسمى نواميس تاريخية. وهذه النواميس ناتجة او مسببة عن عاملين اساسيين: الاول ، الاوضاع الجغرافية في كل بلد ، و الثاني الطباع الاثنية لشعبه. و لما كان من المسلم به أن الطباع الاثنية يوجهها الاقليم الجغرافي ، فتكون النتيجة ان العوامل الجغرافية تشكل العنصر الاول في تطورات الشعوب ماضيا وحاضرا. لذلك نرى ، عند درس التاريخ ، أحداثا كبرى تتكرر بصورة دورية يطلق عليها اسم ” نواميس ثابتة”.
- ” نواميس ثابتة ” ؟ أرجو أن تعطينا مثالا…
– أعطي مثالا : يثبت لنا التاريخ أن هناك منافسة دائمة أو شبه دائمة منذ فجر التاريخ ( أي منذ خمسة آلاف سنة ) بين مصر و العراق لفرض سيطرتهما على البلدان التي تفصل في ما بينهما ، اي سورية الجغرافية ( لبنان ، سورية الحالية ، فلسطين ). و يعود سبب هذه المنافسة إلى أن العراق تعتبر ، منذ فجر التاريخ ، ان الوصول الى البحر المتوسط هو شرط حيوي لها ، وهي، لكي تصل الى البحر المتوسط ، مضطرة الى السيطرة على سورية ، أو على الأقل جزئها الشمالي. مقابل ذلك تعتبر مصر، من جهتها ، كما يثبت التاريخ ان كل دولة قوية تنشأ على حدودها الشرقية تشكل خطرا على سيادتها و استقلالها. والحقيقة أن جميع الغزوات تقريبا التي دخلت القطر المصري كانت طريقها سورية – فلسطين – صحراء سيناء. لذلك تقاوم كل توسيع عراقي، او اسيوي في المنطقة الآسيوية التي تحدها شرقا.
و يمكن القول بأن نزعة التوسع عند العراق هجومية في حين انها، لدى مصر دفاعية.
- ألا ترى أن هذا التوكيد على حتمية التاريخ يجرد الانسان من حريته وارادته في التغيير، ويجعله أشبه بآلة تسيرها قوة عمياء؟
– لا شك في ان الانسان حر في ارادته ، ويمكنه ان يقوم بأعمال مستمدة من هذه الحرية ، و لكن هذه الحرية نسبية ، و الاعمال التي يأتي بها الانسان تكون موفقة اذا جاءت موافقة للنواميس الطبيعية أو الجغرافية، وغير موفقة، ومعرضة للزوال اذا خالفت هذه النواميس. ثم ان الانسان يتحرك بميوله الطبيعية ( اهوائه وعواطفه ) أكثر مما يتحرك بقواه العقلية. وهذه الميول تطبعها بصورة رئيسية ، كما اشرت، العوامل الجغرافية.
فالشعوب العربية ، مثلا ، التي هي بصورة اجمالية من عنصر واحد ، و لغة واحدة ، و دين واحد ، نراها تتباين فيما بينها و تختلف ، بالطباع و الاخلاق ، بسبب التباين الجغرافي.
- في هذه النظرة الى التاريخ ما يجعل شعوب هذه المنطقة في صراع دائم ، حتمي…
– هذا هو الواقع. لذلك ينبغي على هذه الشعوب بالمقابل ان تفيد من التاريخ ، و تتعاون فيما بينها. و هنا تظهر امثولات التاريخ.
- ألا ترى ان هذا الثبات الذي تشير اليه راجع ، كذلك ، الى نوع من الثبات في التقاليد والافكار والعقائد، لا الى العوامل الجغرافية وحسب ، وأن هذا الثبات يتغير اذا دخل عنصر ايديولوجي ثوري جديد ، كالماركسية مثلا ؟
– لا اعتقد. ان طبائع البشر نوعان : ثابتة تنتقل بالوراثة وهي التي تطبعها العوامل الجغرافية، ولا تتغير الا بالانتقال الى اقاليم اخرى. ومكتسبة بتأثير اللغة والدين والثقافة والايديولوجيا والمدنية المادية. وهذه لا تنتقل بالوراثة ، و لا تؤثر في نفوس الشعوب تأثيرا ثابتا دائما. على أنها يمكن أن تحرك الشعوب، كنوع من الحمى ، لكنها ككل حمى، ظاهرة مؤقتة، لان مصدرها خارجي لا داخلي.
وسرعان ما تزول، لتسيطر الطباع الوراثية الغريزية.
- كيف تفسر التغير في مثل هذه الحالة ؟
– التغير يتم في الوسائل المادية ، الانسان ازداد خبرة و معرفة. صار اقوى و أكثر فعالية بوسائله المادية. لكن نفسه ، باقية كما هي ، لم يتغير جوهره.
- اذا كانت هذه صورة الانسان كما يقدمها لنا الماضي على الاقل ، فان هناك ما يتيح الاستنتاج بانه متحجر و شرير…
– المدنية وجدت لتقمع الغرائز الحيوانية في الانسان ، لكنها لم تنجح. و ها هم الناس: يقتل بعضهم البعض الآخر حتى باسم الدين.
- اذن ، كيف تتصور المستقبل ؟
– المستقبل لله … لا اعرف. لكنني متفائل ، رغم كل شيء.
- كيف تتصوره ، كمتفائل ، بالنسبة الى شعوب المنطقة العربية ؟
– مستقبل هذه الشعوب هو في التعاون باخلاص ضمن الجامعة العربية. انا على يقين انذاك أن الحالة ستكون أفضل من الحالة الحاضرة.
- اذا كانت هناك فواصل جغرافية حاسمة في تكوين عقلية الشعوب العربية ، فما هي القيم التي يتميز بها ، تبعها لذلك ، كل شعب منها ؟
– الثقافة نوعان ، مادية مبذولة للجميع. نحن اخذنا الثقافة المادية. لكن نفوسنا باقية كما هي.
- فيما يتعلق بلبنان، بالثقافة اللبنانية، ما هي خصائصها المميزة، بالنسبة الى الثقافة العربية؟
– خصائص لبنان الثقافية ” كوسموبوليتية ” بسبب انفتاحه على البحر. فهذا الانفتاح يولد عند سكانه الميل الى الاتصال بالشعوب و الافكار معها.
- الكوسموبوليتية صفة خارجية لا داخلية …
– انها صفة داخلية ، اي انها ثابتة. ان اساس حضارة الشعوب التي سكنت لبنان سامي (عربي)، ممتزجة بعناصر اجنبية او غير سامية …
- لكنني اعتقد ان اللبناني عربي لا كوسموبوليتي ، او هو عربي اكثر مما هو كوسموبوليتي.
– لكن تبقى هناك فروقات بين الفن في لبنان و الفن في مصر أو العراق…
- سؤال أخير : ما هي رؤياك كمؤرخ ، لهذه المنطقة ؟
– انا متفائل، كما قلت. كانت هذه المنطقة تلعب دورا كبيرا في جميع الميادين الاقتصادية و الثقافية والسياسية. وما نراه اليوم ليس الا عثرات عابرة ، يلزمنا وقت للتمرن على الاستقلال. ولا اعرف كم يطول هذا الوقت. فهو عائد لحكمة القادة في هذه المنطقة.
أما فيما يختص بلبنان ، خاصة ، فمن الخطأ أن يقال أنه منعزل او يريد الانعزال ، فالتاريخ يثبت أن لبنان ، نظرا لتكوينه و موقعه الجغرافيين ليس جزءا لا يتجزأ من الشرق العربي و حسب ، و انما هو ، الى ذلك ، جزء اساسي و فعال. و لما كان دوره صلة وصل بين الأقطار العربية و الآسيوية من جهة ، و الاقطار الغربية من جهة ثانية ، فلا يمكنه أن يقوم بهذا الدور اذا تخلى سياسيا عن جيرانه و اخوائه العرب في هذا الشرق …