شهادة الشيخ روبير بولس |   شهادة الأب كميل مبارك   | شهادة حارث البستاني    

شهادة غسان تويني  |  شهادة ماغي الاشقر الحاج  |  شهادة المطران اسطفان هكتور الدويهي

شهادة الأب جورج رحمة  |  شهادة المطران بولس اميل سعادة  |  شهادة سعيد عقل

شهادة الأب منصور لبكي | شهادة كميل نوفل  | شهادة الرقيم البطريكي

شهادة الدكتور يوسف الحوراني  |  شهادة الدكتور وليم الخازن  |  شهادة جورج سكاف

شهادة الدكتور حسان حلاق  |  شهادة الدكتور كريستيان الحلو  |  شهادة السفير محمد علي حمادة

شهادة ادوار حنين  |  شهادة الدكتور نقولا زيادة  |  شهادة الدكتور علي شلق

شهادة الأب منصور لبكي  |  شهادة جورج مصروعة


1 – جواد بولس واستراتيجيته التاريخية

شهادة الشيخ روبير بولس

خمس عشرة سنة مضت على غيابه في مثل هذا الشهر ولم يغب فكره عن الاحداث التي تعيشها منطقة الشرق الاوسط وفي صدرها لبنان , فكأنه كتب في زمانه لكل زمان . لان الشعوب التي تحمل طبائعها لا تتغير فهي ابدا صنيعة ارضها ومناخها وموقعها مهما حررت المسافة في عصر السرعة , الزمن بين الاوطان والقارات.
جواد بولس لم يعالج الاحداث في وقائعها التي ما بدلت شيئا في الشعوب التي هيمنت عليها الا اذا استثنينا مرحلة فتوحات الاسكندر التي تركت بصماتها الثقافية على المستعمرات التي دانت لسلطتها فضلا عن المرحلة الرومانية التي تركت اثارها القانونية على امبرطوريتها التي شملت الشرق الاوسط زمنا طويلا.
جواد بولس تخطى مرحلة السرد العقيم في الاحداث التاريخية لينفذ الى صميم كل حدث ويحلل اسبابه ونتائجه واضعا نصب عينيه العلامات الفارقة المتكررة في كل مرة , والتي تشكل ثوابت في حياة هذه الشعوب , ليستخلص من ذلك فهما استرتيجيا لنوازع هذا الشعب او ذاك , وليضع امام حكام المنطقة وشعوبها سر حروبها ومشاكلها علها بهذه المعرفة تتحرر من كوابيس الماضي , وتدخل في صلب التاريخ الذي هو حضارة اي انجازات حضارية لا يوفرها سوى السلم المرتكز على احترام الاعراف والمواثيق والعهود.
ولم ينس جواد بولس , في غمرة انشغاله بدراسة شعوب الشرق الادنى وحضاراته , وطنه الام الذي خصه بعناية فائقة فوجد ان لبنان عريق عراقة الدهر , اذ هو يؤلف مع مصر وبلاد ما بين النهرين احد اقدم البلدان حضارة في العالم.
ولقد لاحظ ان لبنان شرقي ومتوسطي كما انه جسر حضاري ما بين هذا المتوسط والشرق … مما جعل هذه العناصر التي تتفاعل على ارضه تنتج شخصية تعددية هي اقرب الى الشخصية العالمية , فضلا عن انها تحرره من عقدة الانطلاق وتمنحه هذه الذهنية الديمقراطية الحرة وهذا الدور الوسيط بين الشرق والغرب , بين الشمال والجنوب.
ولهذا السبب لم يتأثر لبنان الا بنسبة ما اراد , بالشعوب التي سيطرت على ارضه زمنا , فأخذ منها عناصرها الحضارية منذ عهد الاسكندر وعهد الرومان الذي اطلق اشهر مدرسة قانونية في زمنها , وباتت تخرج اعلاما في التشريع كما تخرج جامعاتنا المتنوعة اليوم اعلاما في الثقافة والفكر السياسي والاقتصادي والطبي والعلمي الى كل انحاء العالم العربي والعالم الغربي . فرسالة لبنان متمثلة في عطاءاته الفكرية والانسانية منذ مطلع التاريخ وحتى يومنا هذا , وهي على اي حال رسالة سلام لا حرب.
ولئن مر لبنان منذ عقدين بحروب اقليمية ودولية على ارضه , وشهد تقلبات عسكرية وسياسية مختلفة , الا انه عرف كيف يحافظ على شخصيته التاريخية ووجدانه الوطني.
وكما قال جواد بولس : ” صحيح ان لبنان اضطر في حقب من تاريخه للتنازل عما هو غال من اجل تسوية ما , الا انه كتجمع جغرافي يتحسس شخصيته , لم يغرق كليا ولا مرة , فلبنان ليس ملجأ لناشدي الحرية مرتجلا من اجل تجمع بشري معين , بل هو اكثر من ذلك , انه وحدة جغرافية طبيعية تؤلف كيانا وطنيا حقيقيا.
” ان العوامل الطبيعية والاقتصادية والتاريخية , شجعت باستمرار روح التسامح والحرية التي هي في اساس الدور اللبناني الراهن كموائل طائفي او متعدد الطوائف , وكملجأ لاقليات مختلفة . فالدور الذي يلعبه لبنان اليوم كملجأ للتجمعات الطائفية هو اذن نتيجة وجود لبنان وليس سببا لوجوده “.
لقد وعى جواد بولس دقة هذا الواقع المركب , وعمل من خلاله على المحافظة على دور معين للمسيحيين يخدم الحضارة العربية في تراثها ولغتها وتقدمها العلمي , وكان رجل دولة في نظرته الى هذا التوازن القائم يوم شكل هو وايوب ثابت والمير خالد شهاب حكومة ثلاثية للاشراف على انتخابات ١٩٤٣ الفاصلة بين الانتداب والاستقلال وشجع لاول مرة على اشراك اللبنانيين المنتشرين في العالم في دورة الحياة السياسية في وطنه , فكأنه لمح منذ ذلك الحين ما يمكن ان توفره الطاقة البشرية اللبنانية في عالم الانتشار من تعزيز لمكانة لبنان الدولية . وما احوجنا , هذه الايام , الى هذه القوة في زمن التراخي والتخلي !


شهادة الأب كميل مبارك …. الحلم ابقى يا صديقي. 2
بقلم : الاب كميل مباركيا صديقي علمتني الشمس ان اعطي حنانا
دونه كل السدود
علمتني الزهرة البيضاء
ان اعطي عبيرا
طاب في قلب الورود
نحن نهر
لو خنقنا الماء فينا
لانتهى فينا العفن
نحن روح
لم يقيدنا تراب
لا ولا سكنى الكفن
لا تسلني
كيف لون الثلج ابيض
اين يسعى جاهدا
هذا الوجود
لا تسلني
كيف لا تقوى
على الحر القيود
يا صديقي
حين اعطى الحب
احلامي طريقا
لم يقل اين الحدود؟ * يا صديقي
عشت عمرا لم يكن
في عتمة الليل شعاع
لم اجد وجه الصديق
بين جمع الناس تلقاني
وفي قلبي ضياع
تهت من ذاتي
وعن نبض الطريق
كلهم في يقظة البال غريب
والعيون
في فراغ الصمت في فعل السكون
في ضمير غاب عن وقع السماع * يا صديقي
كل ما نلقاه في الايام
دمعا واكتئاب
عله يخفي ابتساما
يرتدي طعم العذاب
فاحتضنه
واعصر الالام خمرا
واحسه طيب الشراب
ليس ما نبنيه بالاحلام
وهما او سراب
قد يكون الحلم ابقى يا صديقي
من جذور الارض او برج القباب
حين يروي الحب
صحرائي هديرا
ينتهي فعل الحساب * يا صديقي
عشت عمرا لم يكن للطعم طعم
ضاعت الاشكال عن اجسادها
واللون ضاع
قد يمر العمر لا تلقى صديقا
لا تخف
فهو آت خلف اثار الزمن
يقلب الاعمار احلاما ويبني
انجم الفردوس من زهر المحن
يا صديقي
دع سواد الفحم
وانظر في اللهب
واعتصر من حصرم الايام
اكسير العنب
انما العمر طريق
يبتدي يوم الوداع .

أولا…
نوقدها , شمعة الذكرى , لرؤيا : هذا الذي مضى … هذا الذي قد كان …
استمهال زمن يوما ,
قراءة عنوان ؟!
ووقفت ..
حضورا في مدى المكرمات ,
فوق اطراف اصابعك رائحة الرفات …
كناه , فكرا وسيرة ,
وفي القلب المعنى امل وطن
بعين قريره .
وقرعت الابواب … ملكا تدروش ,
ملء يديك نهر صلاة ,
وعلى جبينك الطلق الوف الزكاة ,
وفي كل حوار حاكم اوحش .
لله درك غروبا ليشرق
واغنية نضال بملمس طفولة
وفي ذاكرة جلدك … كل الرجولة
وصدق هو الاصدق .
نحدث الكون بالذي قد كان
نقرأ العنوان ..
فقربنا انسان ,
ما ووري يوما …
في ثرى قبرك
” الحكمة “في تسع … بالترتيب الالفبائي لاسماء الشهود :– حارث البستاني : لي جائزته ” على قرطاجة ابنة صور ” , واثره في شخصي وكتاباتي … وحياتي
– غسان تويني : الرجل الذي قدم له ديغول .
– ماغي الشقر الحاج : جواد بولس … حجر الزاوية في دعم الكيان اللبناني .
– المطران اسطفان هكتور الدويهي : عرفناه بالحس , كحالنا مع النبع والجرس واحدا من بناة الهوية عندن .
– الاب جورج رحمه : هو رجل الوطنية والفروسية …والكفاف
– المطران بولس اميل سعادة : وارث مجد الاسرة والتراث …رفض ان تخفض السياسة من عليائه .
– سعيد عقل : اقترحته رئيسا للاكاديمية اللبنانية , فصارت بمثابة الكتاب الذي يؤلف .
– الاب منصور لبكي : ابن الشمال , اغرته بمعارج الحبساء , فانتحى … نجعته الكينونة الحقيقية .
– كميل نوفل : كالجبل الذي ولد فيه … تساميا بالشموخ , وسماحا بحدبه على ما دونه .


3

شهادة حارث البستاني

“لي جائزته على ” قرطاجة ابنة صور “
واثره في شخصي وكتاباتي …وحياتي .

موئل العظيم … والحجة المتواضعة :
ترددت كثيرا الى دير يسوع الملك , وغرفة بسيطة فيه اتخذها الرجل الكبير جواد بولس منزلا صغيرا في اواخر حياته . مكتبة متواضعة وطاولة … وأثاث اضافي لا قيمة له , على كل حال , الا لانه كان له هو في يوم .
احاديثنا في كل مرة كانت في السياسة وخلفياتها التاريخية , على غوص في تجارب الامم وسببية الاحداث , والغاية … فهم بل تفاهم بافادة متبادلة ومشتركة .
وما كان , على مقامه الكبير في العلم والمعرفة والنبوغ , الا ليصغي , ويحترم طروحاتي التاريخية , حريصا وهو يقارع الحجة بالحجة , على ان يعاملني معاملة الند للند . وانا … كلما تمادى في مأتاه ازددت به اعجابا , وبتواضعه اعتزازا .
في خطاه .. اخا روح :
واستمر جواد بولس اخا روح بعد رحيله . فقد نلت جائزته على كتابي ” قرطاجة ابنة صور ” الصادر عام ١٩٨٦ , وغني عن القول كم لقرطاجة من مساحة في كتابات هذا العالم حول حضارات الشرق الادنى , لدرجة ان كتابه في موضوعها ” شعوب الشرق الادنى وحضاراته ” لم يفارقني يوما ابان دراستي في باريس .
ارتباط ادى الى تواصل روحي بينه وبيني , والزمني بالا انسى عهده في شيخوخته , فاواظب على زيارته في منسكه الاختياري . ولعل ما في كتابي ” قرطاجة ..” من نمط جواد بولس المؤرخ ومنحاه الفكري الرفيع ما يؤكد اثر الرجل في شخصي وكتاباتي، وفي حياتي.


4

شهادة غسان تويني

الرجل الذي قدم له ديغول
كان ذا شخصية متعددة الجوانب والاهتمامات , حتى ما يحاط بها الا بصعوبة يزيد من مقدارها تكتمه , خصوصا في كل ما يتعلق بشؤونه الشخصية , حتى اذا ما انس الى مستمع يرتاح اليه , استرسل في كل شأن , على غير استدراك او تبخل .
النظرة : الطموح والمقاربة التاريخية :
لم اعاصره تماما , الا اني , بدرجة الوعي التي الزمت بها النفس , قدرت الساعات الطوال التي امضيناها معا , وان على فترات متقطعة . وكم قصدت اهدن لامضي النهار مع جواد بولس , اصغي اليه واستمتع بأبعاد تفكيره وعميق رؤياه!
التحليل قدرة فيه , على امكانية كبيرة في الاستشفاف بنظرة تاريخية غير مملة . وهذه ميزة , نادرا ما نراها في من يحاولون تأريخ الاحداث .
اما طموحه السياسي فلم يبذل الكثير في سبيل تحقيقه . ما تهالك على المناصب , نيابية وسواها . وكان دأبه ان يردد : ” انا موجود اذا كنتم تريدونني , وجاهز للخدمة العامة ” .
وبهذا التجرد تميز , وتميز في سلالة المرشحين الدائمين للرئاسة الاولى , ومعظمهم من المحامين ورجال القانون , بانه الوحيد الذي يقارب الاحداث مقاربة تاريخية .
اهلية لم يفسح لها …وقرار :
لذلك … ظني في جواد بولس انه كان استطاع , لو وصل الى الحكم , ان يغير الكثير من نظراتنا ومعتقداتنا حيال القضايا الدائمة الطرح , عربيا وعالميا , مستندا الى الواقع التاريخي الذي يلم به خير المام .
كانت شخصيته لتدفعه , رجلا وعالما , الى التعامل مع الحكم بقوة العارف باطن الاشياء وظاهرها , وتؤهله لايجاد حل لمعظم مشاكلنا وعقدنا شبه المستعصية . يقوي من استعداده ذاك : قرار قطعه على نفسه , وقيد به مريديه للقمة في الشأن العام : ” اذا انتخبت رئيسا للجمهورية , يجب ان انتخب بالاجماع ” . جواد بولس ما كان مرشح حزب ذي باع ولا دولة بسطوة .
ديغول والرجل الذي من لبنان :
اما ابحاثه التي تركها بسعة لبنان التاريخ والمنطقة , ومعظمها بالفرنسية تجانسا مع المراجع التي احال اليها او استقى مسلماتها , فاها تجعلنا على مقربة من الحضارات السامية المتعاقبة , وتظهر بما لا يقبل الشك كم نحن نجهل حقيقة تاريخنا .
كتابات , اتصفت بالوهج العالمي , نتيجة الجدية والدقة في العمل , الى الموضوعية والتجرد في الشخص الذي هو . ولا نسأل بعد… كيف لرجل تاريخ من وزن الجنرال ديغول يكتب مقدما لكتاب صنعه رجل من هنا … من لبنان !


5

ماغي الاشقر الحاج

جواد بولس …
حجر الزاوية في دعم الكيان اللبناني

جاءني … ذات نهار :
جاءني بعيد مقتل كمال , برفقة سيمون عواد , يعزيني في مصابي . أذكر كلماته , قال لي :
” الوقت يبلسم جرح كل خسارة من المستوىالبشري , اما خسارتنا كمال فعاصية على الوقت , ولا عزاء … لان كمال عصارة مائتي سنة من الجهاد التاريخي لاثبات المواطنية في هذه البقعة من العالم .وكيف السبيل الى انتظار زمن اخر بهذا المقدار كي نعطى رجلا بمثل هذه الجرأة ؟! “.
قلت : ” البركة فيك يا استاذ ” .
قال : ” انا مؤرخ , في حين ان كمال خلاق ومبدع وحلل , اكتب عنه , نعم … ولكن انى لي ان اكتب مثله ؟ انه في قائمة الخسارات الكبرى التي حلت بهذا الشرق العربي ” .
هو كلامه , ذات عهد , ذات نهار .
هو … ويا ابناء لبنان :
جواد بولس !…
انه المحلل المؤرخ الذي عز نظيره في هذا البلد، بل هذا الشرق . وهو الصادق في تسجيل الوقائع، ماحضا اياها ابعادا من شخصيته العقيمة، وسحرا من جاذبية اقواله وادائه .
هو… بما فعل والرجال الرجال الذين من رعيله … حجر الزاوية في دعم الكيان اللبناني .
جاهروا بما كتب هؤلاء، ففي ارثهم ما يعد بغد افضل.
والى ابناء لبنان :
اقبلوا على كل فكر لبناني اصيل ,تعد اليكم الارض من كل جنبات هذا الوطن المضرج بالاه حينا وبالدماء.
ديك المحدي في ٢٨/٧/١٩٩٧


6

المطران اسطفان هكتور الدويهي
عرفناه بالحس، كحالنا مع النبع والجرس،
واحدا من بناة الهوية عندنا

….قولي في الاستاذ جواد بولس لا يتعدى البوح بالشعور الشخصي الذي كان وما يزال يخالج معظمنا ,جماعة وافرادا، نحن الذين عرفناه في بيئته الطبيعية , كواحد منا , واحد من تربتنا , واحد مرتبط بنا في العمق , دون ان يكون لنا حيلة كافية لفلسفة هذا الشعور، وهذا الارتباط .
عرفناه …كاننا امام عليقة ملتهبة :
كما هي حالنا مع الشريين والنبع والجرس،
وكما هي حالنا ايضا مع الاسم الذي نحمل، والهوية التي تحدنا:
كلنا عرفناه على راس بيت عريق وكريم،
وعرفناه رجلا سياسيا ” ممن نوع اخر ” من النوع الذي يبقى عالقا في ضمير البشر في الساعات الحاسمة ,
وعرفناه رجل قلم واسع المجال والمنال،
واكتشفناه اخيرا رجل كيان لنا.
لكن هذا كله بقي لنا امرا سطحيا.
فمعرفتنا الاستاذ جواد بدأت بنوع من السؤال , وظلت تحوم حول شخصه بشيء من التساؤل الذي لا يهدأ , فقادتنا من الاحترام المفروض الى التقدير فالتكريم فالمحبة , وفي النهاية الى الفخر العلني به .
لكن هذا ايضا لم يكف.
انه تركنا على عتبة بابه , لم ندخل، ولا هو ساعدنا على الدخول , لان الاستاذ جواد كان له حرمه , وكان حريصا كل الحرص على قدسية هذا هذا الحرم وهيبته.
فالهيبة كانت , فعلا , على اساس علاقتنا به،
كاننا امام عليقة ملتهبة . لا تجرؤ على الاقتراب منها .
لم نكن ندري .

من بناة الهوية …عندنا :
بالرغم من هذا الجهل عندنا، عرفنا – عن خبرة لنا في الاعماق , او قل بالحس او الغريزة – ان الاستاذ جواد هو واحد من بناة الهوية عندنا : عنها نقب ووراءها سعى , وعن وجهها نزع غبار الدخيل والمغلوط , وبها قارن , وفيها وفي ايامها جال . قرأ حاضرها القريب والبعيد , وحاضر فيها وكتب . كتب بحكي لنا من خلال الاحداث والمواقف
والمعرفة والاسفار والوجدان الواعي واللاواعي . وكان يهدي ويميز ويعلم , وكان لنا , فعلا , ” الاستاذ ” بكل معنى الكلمة.
هذا التعبير الجديد علينا الذي يحسن ان نستبدل به لغتنا القديمة العريقة فتقول فيه ” الحكيم ” و ” الشيخ ” و”المعلم “.
ولقد عرفنا ايضا , من ناحية اخرى، انه خلال المدة الطويلة التي كان يبني فيها ويرفع المداميك , بالصمت والجهد والتنقيب، مكث صامدا وبيننا .
لم يكن غائبا ولا غافلا ولا ضائعا ولا هاربا ولا خائفا، بل ساهرا، مراقبا، مرافقا، واقفا على مثال الخفير الامين، الذي هو دوما في يقظة وعلى تأهب .
اجل … كان ” الاستاذ ” واحدا من بناة الهوية عندنا ,وواحدا من الخفراء الامناء لنا .
هذا ما كان يتململ فينا، ويطلع من اعماقنا، نحن الذين عرفناه في بيئته الطبيعية، دون ان يتسنى لنا ان ندرس حرمه الحصين .

شهادة … ريثما نعبر عتبة بابه :
ان هذه الشهادة المحدودة الوضيعة لن تعطي الاستاذ جواد حقه , كما انها بعيدة من ان تشفي غليلا عندنا ,
ونحن نعلم ان هذا لن يتم فقط بالاعلان عنه بانه من الكبار بينا . نحن في حاجة الى اكثر :
اننا نحتاج ان نعبر عتبة بابه، وان ندخل الحرم …
اننا نحتاج ان نحترق بنار العليقة التي تلتهب …
نحتاج اليه ونريده ونصر عليه.
فاذا تم , كانت شهادتنا فيه وله وافية، واعطيناه حقه، وجاز لنا عندئذ ان نرفع اسمه بفخر علما من اعلامنا.
بروكلين
٩ آب – اغسطس، ١٩٩٧


7

شهادة الأب جورج رحمة

هو رجل الوطنية والفروسية … والكفاف .

عرفته … صديقا بثلاث :
عرفت جواد بولس يوم قرأت مؤلفة ” حضارات وشعوب الشرق الادنى ” , فلفتني فيه نظرته الفلسفية والاجتماعية الى التاريخ . وبما انني كنت استاذ مادة الفلسفة في الجامعة اللبنانية , عزمت على تدريسه في صفوفي , يقينا مني بانه من عظماء لبنان .
اما لقاؤنا وجها لوجه فكان في زغرتا في بادئ الامر , ثم توالت لقاءاتنا في بيروت , وكان كبيرا عندما علم انني في صدد تحضير كتاب عنه بعنوان “Jawad Boulos philosophe de l ‘histoire “….. ثم عقدت اواصر صداقة بيننا وائتلفت بين شخصيا مزايا مشتركة .
فعلى مدى السنوات العشر التي سبقت وفاته , رافقته يوميا , خصوصا بعيد تأسيس الجبهة اللبنانية التي كان احد اعضائها . يتردد على دير عوكر لحضور الاجتماعات , وانا يومذاك المسؤول الاداري فيه نلتقي ساعات طوالا نتكلم في خطه الفكري والتاريخي , واتمادى في الغوص على فكره وفهمه واستمد مادة كتابي فيه Jawad Boulos philosophe de l’histoire ”
يحفزني الى ذلك عبارة كان يرددها Jacques Benville تقول :
” Un politician qui ne connait pas l’histoire c’est un médecin qui n’a pas été à la clinique. C’est un médecin qui ne connait pas ni les causes ni les conséquences”
هذه الصداقة ابانت لي ثلاثا في شخصه :
١- فرادة نادرة ورجولة عز نظيرها ,
٢- علم تاريخي عميق وفكر رؤيوي Visionnaire
٣- اهلية رجال الدولة ومن الطراز الاول .
ومما جعلني اتلمس هذه الصفات فيه، دقة مراقبته
للاحداث وتعليقه عليها انطلاقا من خبرته كوزير في احدى الحكومات . ولا يخفى على احد ان جواد بولس كان مرشحا لرئاسة الجمهورية منذ ما قبل ولاية الرئيس بشارة الخوري , فرضت الظروف الاقليمية استبعاده وجيء بكميل شمعون رئيسا .
رجل الفروسية والشيم .. والكفاف :
اما في ما يختص بجواد بولس الانسان ، فقد كانت ميزته الاساسية احترامه لنفسه وللاخرين . لم يكن لينقد احدا , بل على العكس , يوجد له دائما الاعذار فلا تحامل ولا ضغينة .
من هنا , قوله الدائم : احترام الذات يبدأ باحترام الاخرين ، فالانسان ابن تاريخه ومجتمعه ، وهو وحدة تتكامل مع هذا المجتمع في اطاره التاريخي .
كذلك , عاش حياته من دون ان يتملق احدا او يتزلف اليه . وكم من مرة سألته : ” لماذا لا تقصد بعبدا وتلتقي فخامة الرئيس , وتقول له رأيك في الاحداث ؟” فيجيب :” الرئيس يعرف علمي وخبرتي في الحياة السياسية اللبنانية وتاريخ لبنان والشرق . انا لا اطلب منه ان يستقبلني وان احس بحاجة الي فليستدعني ”
صحبته طوال حياته روح الفروسية وشيمها من كرم نفس واخلاق وتفان في خدمة السوى , الى التجرد في التعامل مع المشاكل والاحداث والحرص على خدمة الحق والحقيقة .
على رغم علمه ومكانته المرموقة , ظل جواد بولي بسيطا في حياته اليومية ، مترفعا عن كل ما يمت الى المادة بصلة . كان يردد دائما امام اصدقائه : ” انا اؤمن بالله , وبالدور الذي اعطاني اياه لاقوم به في هذه الدنيا “.
اضافة الى ذلك كله ، كان مارونيا منفتحا منزها عن كل تعصب لانه كان مدركا في العمق دور الماروني في الشرق.
من هنا ، حرصه على موازنة كلماته قبل ارسالها , فجاءت مسؤولة تعبر بوضوح ومباشرة عن ارائه وافكاره .
كان يقول لي في هذا الصدد : ” الناس تنتظر جواد بولس ليقول كلمته للتاريخ “.
عاطفي هو من الدرجة الاولى , الا انه لم يكن يظهر عاطفته لئلا تستغل .تميز بالعفة في كل شيء , احاسيس وعلاقات بالاخرين , وحتى على المائدة … يكتفي منها لطعامه بصنف واحد.
في فترة حياته الاخيرة ، ادرك ان ساعة الرحيل ازفت , كان مواظبا على تناول القربان المقدس , واستعد بهدوء للموت .وكان يقول في هذا الصدد : ” انا ما بخاف من الموت لانني اعتبر انني انتقل من هذه الحياة الى حياة فضلى ” …
بحثا عن الوطن الامثل :
اما في السياسة فلقد اعتبر ان لبنان مفتاح الشرق ومركز الثقل في هذه المنطقة , واسف لعدم استقلالية السياسة اللبنانية غير واجد حلا في سوى التدخل من الدول العظمى .
ثم استقرار السياسة اللبنانية عنده لا يبنى الا على اساس التوافق بين ابناء لبنان جميعا . وما هذا الوطن في رأيه الا ليبقى واحدا تتعايش طوائفه فيه داخل دولة موحدة لا طائفية .
وكم حاول , يوم انتدب للحكم في احدى الحكومات , ان يطبق هذه المبادئ التي يؤمن بها , فلم يلق اذانا صاغية , فاعتكف معتزلا السياسة مكبا على البحث في حقائق التاريخ لكتابتها .


8

شهادة المطران بولس اميل سعادة

وارث مجد الاسرة والتراث
رفض ان تخفض السياسة من عليائه

قاعدتا الاسرة والتراث :
انطلق جواد بولس في عمله من قاعدتين : اولى هي التراث الوطني الذي ورثه عن اسرته وبنوع خاص عن جده المرحوم الشيخ اسعد بولس , رفيق يوسف بك كرم في حركته الانتفاضية ضد الحاكم الاجنبي في لبنان , منتصف القرن التاسع عشر .
فقد كان الرجل مرافقا دائما للزعيم الوطني , يخوض الى جانبه المعارك في المناطق اللبنانية , الا ان دوره لم يتوقف عند الناحية العسكرية بل تعداها الى كل شأن معرفي . ففي منتصف القرن التاسع عشر كتب مذكراته عن حركة يوسف بك كرم واهدافها الوطنية . وهذا الارث انتقل الى جواد بولس , ليعيشه , من ثم بكل ابعاده الوطنية والاجتماعية .
ثم في زغرتا خمس عائلات تتعاطى الشأن السياسي . واساس هذا التعاطي اما عائلة كبرى تعمل لايصال احد افرادها الى الزعامة , او تراث وطني . اما جواد بولس , فقد استند الى الاثنين : عائلته وهذا التراث .
القدوة وسط رمال تتحرك :
ولئن قرب جواد بولس العائلة في الخير فانه لم يسجن النفس في داخل اطارها الضيق , اذ كان سياسيا على مستوى الوطن . وقد اتخذ الحق شعارا وقاعدة , فاذا اخطأ احد افراد عائلته , لا يهادن ولا يسامح , ويعمل على ان يرتدع . وهذه ميزة جعلت منه قدوة في ممارسة العمل السياسي الحر . ولا شك ان تعمقه في التاريخ حتى عرف بانه محدث وبحاثة فيه على حد سواء , هذا دفعه الى التعامل بصلابة مع منطق السياسة في لبنان .
ولما كانت هذه السياسة عندنا كمثل الخطو في الرمال المتحركة , فلقد اعتزلها , ليس حذر الخطأ بل مخافة ان تخفض من عليائه , والتزم البحث والتأليف والعزلة حتى نهاية حياته , مؤثرا ذلك على المجد الزائف الذي تبيحه السياسة في لبنان.


9

شهادة سعيد عقل

اقترحته رئيسا للاكاديمية اللبنانية،
فصارت بمثابة الكتاب الذي يؤلف.

يختصر جواد بولس بانه رجل الارستقراطية بتصرفاته وكتاباته . وضع الكرامة نصب عينيه , واتخذ منها شعارا سواء في حياته السياسية والاجتماعية او في كتاباته .
انا … لتكون له الرئاسة :
اسست الاكاديمية اللبنانية استجابة لرغبة مجموعة من المفكرين , منهم : انا , وجواد بولس , وشارل مالك , وفؤاد افرام البستاني , والشيخ عبدالله العلايلي , وجورج شحادة , وجورج فواز وهو من العلماء العاملين في الولايات المتحدة الاميركية .
اقترح الشيخ العلايلي , في الاجتماع الاول , ان اترأس الاكاديمية , فرفضت فورا واقترحت جواد بولس رئيسا بالاجماع ,والشيخ العلايلي نائبا للرئيس , وفؤاد افرام البستاني امينا عاما .
الارستقراطي الانسان …عاملا :
هدفت الاكاديمية الى الانتاج اولا , لان اعضاءها يعتبرون اكبر منتجي الفكر . واضطلعت باهداف اخرى عي رعاية الفن والعلم واستثارة الابداع , والعمل على ان يكون الاكاديمي المرجع الاكبر حتى في السياسة .
وعمل جواد بولس , كما عملنا جميعا , في سبيل تحقيق هذه الغاية , واعتبر الاكاديمية بمثابة الكتاب الذي يؤلفه , فحماها وواظب على درايتها لتستمر .
فعلا … كان ارستقراطيا في تعامله الانساني والاكاديمي على حد سواء.


10

شهادة الأب منصور لبكي

ابن الشمال , اغرته ارضه بمعارج الحبساء
فانتحى …نجعته الكينونية الحقيقية.

الرجل : شمخة القلم :
اكثر ما لفتني في جواد بولس … قامته التي تشبه القلم , القلم المتشامخ مرتفعا نحو السماء , مؤيدا بالعنفوان والاباء . وليس بالكبرياء كما يحلو لبعضهم خطأ ان يلاحظ . فذات عهد استقلال من وزارة الخارجية , قاذفا بالوظيفة وراء ظهره , مؤثرا على اغراءاتها الكثيرة اسمه والعنفوان . وانتقل الارث , عملا ونظافة , الى اسرته, في زمن صغرت معه السياسة شيما وضمرت رجولة ووقفات .
جواد بولس ما كان رجلا عاديا , ان بالمعرفة الرحبة او بالقدرة على التبصر والتحليل . يقبس من الماضي اضواء فكر , سرعان ما تصبح بتمحيصه وانوار ذكائه نبراسا للاجيال , ينير طريقهم نحو الحقيقة واليقين . ولا نعجبن , من بعد , كيف بادر الجنرال ديغول فوطا لاحد كتبه بنفسه .
وجواد بولس اليوم … مرجع في اعظم دور المعرفة على نطاق العالم الاوسع . فهو في السوربون , على سبيل المثال , في قائمة المراجع التاريخية والعالمية الكبرى .
بساطة الودعاء … غنى الحقيقة :
واسال نفسي احيانا , من اين له هذه الفرادة ؟ وما اجد الجواب في غير الارض التي انبتته , ابنا للشمال اللبناني , ارض القداسة بين قاديشا والارز , وسط الجبال العصية وجارا للقمر . هذه … محضته الشفافية والقدرة على النفاذ , واغرته بمعارج الحبساء والقديسين , فانتحى بعيدا عن ضوضاء الايام التافهة , يحاول قربا من الكينونة الحقيقية .
ولعل اختياره دير يسوع الملك في زوق مصبح محطة لحياته الدنيوية الاخيرة , يضيء , هذا الاختبار , واقع حنينه الدائم الى قنوبين , وعودته , برغبة الانتماء , الى اصالة الارض التي احب .
جواد بولس هام بالكيان الاكبر الذي هو الله . ولذلك تعرى في نهاية حياته من كل اضافة , مالا وجاها وامجادا , مؤثرا عليها كلها بساطة الودعاء , اغنياء السماء الحقيقيين .
كلانا …والبحة العذبة :
ربطتني به صداقة عميقة , توطدت مع الايام في خلال اجتماعاتنا الدورية بمجلة ” الفصول ” , وهو احد ابرز اركانها . يصغي الى كل فرد من اسرتها , او يتحدث , وفي حاليي الاختصار والاستفاضة , ببحة عذبة تستحوذ على سامعيه فيصغون بفرح ولذة .
جواد بولس , ابن الشمال الشغوف ابدا بسحرين : الحرية والايمان , يبقى في ضمير شعبنا احد الشهود الكبار لهذين الحرية والايمان , بجرأة وقوة عز نظيرهما في رجالات كثر من عندنا … والعصر .


11

شهادة كميل نوفل

كالجبل الذي ولد فيه….
تساميا بالشموخ , وسماحا بحدبه على ما دونه .

رجل البحث والرؤيا :
علم من اعلام الفكر والثقافة في لبنان . رأيه الرأي الثاقب , ونظرته النظرة الصحيحة الى الامور , يؤخذ بهما ويعمل داخل الاوساط المهتمة , ليس في لبنان وحسب , بل في المنطقة , هنا , وفي العالم الاوسع .
بنى جواد بولس طروحاته السياية على ما قام به من ابحاث , وتوصل اليه من قناعات تاريخية وجغرافية واجتماعية . وكان لمعرفته العميقة بتاريخ هذه المنطقة وشعوبها ان امتازت قراراته السياسية يبعد الرؤيا , وباتت موضع اهتمام اهل القرار في دول العالم , وبخاصة سادة البيت الابيض في الولايات المتحدة الاميركية , كبرى امم الارض , والقائمين على سياستها الخارجية .
رجل السياية والوطنية :
طرح اسمه مرات لمنصب رئاسة الجمهورية اللبنانية , في الخمسينيات والستينيات بوجه أخص , ومزكيه دواما شخصيته الفذة , ووطنيته الصادقة , ووطنيته الصادقة , واباؤه الصائر اليه من عنفوان اهل الشمال , على انفتاح انساني عميم.
غير ان الظروف السياسية , اقليمية ودولية ربما لم تسمح بانتخابه , فانكفأ الى البحث والتأليف , من دون انقطاع عن الشأن الوطني يعمل في حقله بصمت ونزاهة , فما يبخل برأي وتوجيه على من يطلبهما عنده , خصوصا في زمن حربنا المشؤومة .
ولعل انتسابه الى الجبهة اللبنانية احد مؤشرات استعداده الدائم لخدمة وطنه , من دون التوقف عند نفعية او بدل , او التفات تاى مردود منصب يتسنمه .
خرجة
خصال معرفية وانسانية ميزت هذا الرجل فاكسبته صفات الجبل الذي ولد فيه , تساميا بالشموخ , وسماحا بحدبه على ما دونه .

ثانيا…
بيد القلب , وابحاراتك البعيدة :

تجلسنا بين يديك،
سهولا في حبوة جبل
وغيوث الخير …معارف، قبل
والمدى…خطوة اليك
يا شادي الايام،
كم هيأت من لحن !
والوتر المجروح بلوثة الفن !
تغلق …تفتح الابواب
وكل مستغلق عجاب …
في عتمة الظن.
يا هادي الانام…
عرج على امري،
هنا …وطني لزرقة البحر
والوجه…عبسة الصحراء،
لا…لا تقلها , بل قلها … هو القضاء
في السر والجهر.
نحن أمة …حبها حد الاظافر
والهدب في جفنها نار،
نسجد … نلثم مرمى المنائر،
بيننا وبين الابعاد ..ثار.
قلتها : مستقري هو الدهر
والصحوة الفجر،
وبعد… لا تشتك غربة الدار
تجلسنا قرب المحال،
اسطورة الازل
تقول : حقا بذا وحده الامل
ناد…
وليلاق الرجال بالرجال.
” الحكمة ”

في ثلاث بالترتيب الالفبائي لاسماء المتكلمين , بعد الرقيم البطريركي :
– الرقيم البطريركي : في الوفاة
– الدكتور يوسف الحوراني : جواد بولس ” رجل الدولة ” : نظرة واقعية الى التاريخ خلل الجغرافية .
– الدكتور وليم الخازن : لجواد بولس الذي عرفت : الامة الجغرافية والشخصية اللبنانية … وان في لبنان لشعبا.
– الوزير السابق جورج سكاف : جواد بولس كأنه لبنان : قيم خلقية بامتداد الاعالي , وثقافة بوساعة البحر.


شهادة الرقيم البطريكي
البركة الرسولية تشمل اولادنا الاعزاء ليندا قرينة معالي الاستاذ المرحوم جواد سمعان اسعد بولس وشقيقه فريد وارملة المرحوم شقيقة جواد وسائر ذويهم وانسبائهم في الوطن والمهجر المحترمين .
منارة شامخة من منارات الفكر تغيب اليوم ولدنا العزيز المرحوم معالي الاستاذ جواد بولس ليرقد في تربة اهدن التي احب الى جانب من كانوا امثاله في ايامهم , على ما بينهم من مسافة زمنية , عنينا عميره والدويهي والصهيوني الذين لا تزال اثارهم القلمية تدل عليهم وتضيء الطريق لمن يسلكونها بعدهم وما يصح فيهم يصح في الفقيد الكبير الذي نودع اليوم .
لقد ترك في التاريخ اثرا كتابيا ضخما هو نتاج اربعين سنة من بحث وجهد وتفكير وتحليل وتدييج . فاذا بمجلداته الخمسة في الفرنسية : ” شعوب الشرق الادنى وحضاراته ” , عمارة فكرية متناسقة متكاملة استحقت ان يوطئ لها اكبر مؤرخي العصر : تويني , لشدة اعجابه بها , ولم يوطئ لسواها , وقد اعتمدتها معظم جامعات العالم للتعريف بهذه المنطقة التي كانت ولا تزال احجية من احاجي التاريخ وملتقى لمختلف الشعوب ومنبت الحضارات وديانات ومسرحا لحروب ونزاعات تملأ الدنيا وتشغل الناس . فحلق الاستاذ جواد في اجوائها بجناحي نسر عملاق ونفذ الى احداثها ببصر حاد وربط ما بين اسبابها ومسبباتها ونتائجها وجلاها لوحة تاريخية اخاذة , ذلك انه لم يفقه التاريخ تسلسل احداث بل ثوابت تظهر وتغيب لتعود فتظهر مجددا انطلاقا من قواعد لا تتغير للجغرافيا فيها دور كبير , وعلى هذا ركز مؤلفه الاخير الذي ظهر منذ ايام : ” التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الادنى ” , وهذه النظرة هي التي جعلته دائم التفاؤل بمصير لبنان وببقائه برغم ما اصابه من وبلات , وطنا تغذي جباله الشامخة النزعة الى الحرية , وبحاره السياحية حب المغامرة , وتلهم سماؤه الزرقاء صفاء الذهن , ومناخه المعتدل السماح والحوار , ويجعل منه موقعه الجغرافي بين شرق وغرب جسرا لا غنى عنه لكليهما .
ولم ينصرف الاستاذ جواد الى التاريخ وشؤونه الا بعد ان خبر السياسة وخاض معتركها , فكان نائبا ووزيرا بعد ان كان محاميا ونقيبا للمحامين في الشمال , وكاد ان يشغل منصب الرئاسة الاولى في الفترة الفاصلة ما بين الانتداب والاستقلال .
وثبت على قناعاته الدينية والوطنية فكان غالبا ما يتردد علينا وعلى اسلافنا ليدلل على ما يكنه للبطريركية من عاطفة ومحبة , وعرف في الاحداث الدامية الاخيرة كيف يبقى على الصداقات التي شدته الى الاطراف المتخاصمة , وعمل ما بوسعه على نشر المحبة وظل برغم السن على اناقته في ما كان عليه من وقار , ولم يترك القلم والتاريخ حتى تركه القلم واحتضنه التاريخ علما من ابرز اعلامه ليرقد الى جوار جد له حمل من قبله مجد السيف مثلما حمل هو مجد القلم .
وعلى امل ان يلقى لديه تعالى ثواب الخيرين , واكراما لدفنه واعرابا لكم عن عواطفنا الابوية نوفد اليكم سيادة اخينا المطران نصر الله صفير نائبنا العام السامي الاحترام ليرئس باسمنا حفلة الصلاة لراحة نفسه وينقل اليكم جميعا تعازينا الحارة .
سكب الله على روحه غيث الرحمة وعلى قلوبكم بلسم العزاء .
عن كرسينا في بكركي في التاسع عشر من ايلول سنة ١٩٨٢
انطونيوس بطرس خريش
بطريرك انطاكية وسائر المشرق


شهادة الدكتور يوسف الحوراني

جواد بولس ” رجل الدولة ” :
نظرة واقعية الى التاريخ خلل الجغرافية

ما احاول كتابته في هذه العجالة ليس سوى شهادة شخصية مني لما كان عليه جواد بولس من حضور اجتماعي , ولما تركه من انطباع في الثقافة المعاصرة , ولما اسهم به من تأثير في الدراسات التاريخية لدى بعض المثقفين اللبنانيين , الذين كان لي الشرف ان اكون واحدا منهم .
اللقاء الاول : وصف
سمعت باسمه للمرة الاولى في الخمسينات , خلال حلقات ادبية كنا نعقدها في ” جبل عاملة ” في منطقة بنت جبيل , حيث كنا نجتمع , اما في هذه المدينة الصغيرة او في منازل بعض المثقفين المتسعة للاجتماع في القرى المجاورة , ومنها بلدتي بارون . ونادرا ما كان بيننا خريج جامعة , ومع هذا كانت محاوراتنا تتناول اوضاع العالم المعاصر واتجاهاته بعد الحرب العالمية الثانية , ونخص بالقسط الوافر من اجتماعاتنا القومية العربية , وما يعترض سبل وعيها وتبنيها , كايديولوجية فاعلة لوحدة البلاد العربية , او اتحادها بشكل من الاشكال .
كنا نجمع افكارنا من الاذاعات بوجه خاص , واذا ما وصلتنا جريدة او مجلة دورية كنا نتداولها , حتى ولو بعد اشهر من صدورها .
وفي احدى المرات , وكنا نستعرض قادة العالم بعد الحرب من امثال : ستالين وتشرشل وديغول وماوتسي تونغ, ونصفهم بانهم زعماء وقادة سياسيون ناجحون , بادر احد الرفاق ووصف هؤلاء القادة بانهم ” رجال دولة ” , ذاكرا ان هذا الوصف هو للاستاذ جواد بولس . وقد اعجبنا هذا التعريف , ورحنا نتداوله منذئذ , ونبحث عمن يصلح لحمله من قادة العرب . وكان بالنسبة لي كافيا لاثارة اهتمامي بما يكتب جواد بولس , او ما ينقل عنه من افكار واقوال . ولم يتيسر لي الاطلاع على تفاصيل مشروعه الا بعد ان اتقلت الى بيروت , وبدات العمل في المجال الثقافي كمشرف على مجلة شهرية هي ” المعارف ” التي كانت تصدرها دار مكتبة الحياة للنشر .
رجل القضايا الكبيرة …والدولة .
منذ ان قرات له ادركت اني امام باحث يتعاطى الافكار الكبيرة ويعالج قضايا انسانية عامة , هي من الخط التاريخي
الذي التزم به مبدعو لبنان القياديون في مختلف حقبات التاريخ .
لقد احسست به سباقا ومثالا متقدما في مجال الدراسات الحضارية . والمني كونه لا يكتب بالعربية لنستعين به في خلق تيار للدراسات الحضارية في هذه اللغة بواسطة مجلة ” المعارف ” , التي كنت اطمح الى توجيهها هذا الاتجاه .
اعترف بان اكثر من فرصة حصلت لي لزيارته مع بعض الاصدقاء من معارفه , ولكني كنت اتجنب ذلك , واؤجل مثل هذا اللقاء الى حين ظهور بعض مؤلفاتي التي تؤهاني له , وذلك اجلالا مني لما يقوم به من دراسات هامة , وتجنبا لحصول نقاش قد يعتبرني متطفلا فيه , وانا كنت لا ازال من المبتدئين في الدراسات الحضارية.
حدثت في لبنان محاولة انقلاب عسكرية وصفها من عارضها بانها كانت محاولة لالغاء استقلال لبنان . وشعرت , بنقمة تجاه من قاموا بها , متهما اياهم تلقائيا بانهم انما يقومون بذلك لجهلهم التاريخ الحضاري للبنان , وبالتالي لجهلهم دوره في ضبط معنى الحق والحرية والكرامة الانسانية في العالم المحيط به . ولكن بعد ايام انتشر القول بانهم كانوا يرشحون جواد بولس لرئاسة الدولة , وعندئذ , ودون اطلاع على اية تفاصيل , استعدت في ذهني تعريفه لرجل الدولة , وشعرت ان لبنان في مأمن وحماية تامة , ما دام المرشح للقيادة كان جواد بولس , وما دام القائمون بالحركة لديهم مثل هذه الافكار المتقدمة في القيادة الحضارية .
وغدا جواد بولس لي ضمانة استقلال للبنان وحماية لدوره القيادي , وغدا المتهمون ابرياء لدي من تهمة الجهل على الاقل ….
لقد كان بلغ من القيمة المعنوية بثقافته وهيبته الشخصية ما ينأى به عن كل شك واتهام . وهذا ما حدث بالفعل , اذ لم نقرأ او نسمع ان احدا سأله عن علاقته بالجماعة الانقلابية او عن علة ايمانها به .
فهل تكون هناك هيبة ومناعة لانسان اكبر من هذه ؟
انه كان المثال الافضل لتعريف الثقافة بكونها ” قيمة معرفية قيادية ” في كل مجتمع …
ل ” تاريخ لبنان ” ومبادئ
لقد كان حضورا وطنيا دائما , قبل ان يكون باحث تاريخ ومخطط دراسات .
سنة ١٩٦٥ انشأت الدولة اللبنانية وزارة السياحة وعهدت الى المرحوم ادوار حنين موضوع تنظيم مسؤولياتها . فأنشأ هذا من ضمن لجان الوزارة , لجنة للتراث الوطني بقرار رقم ١١٤، وسمى الاستاذ جواد بولس رئيسا لها , وكنت احد اعضائها . ولم يحضر اجتماعاتنا , ولكن دائما كنا نشعر ووحدي على الاقل , اننا نستمد شرعيتنا الوطنية من وجود اسمه معنا اكثر من شرقية قرار الوزير المتميز , الذي تجاهله الوزراء الذين خلفوه ما يزالون …
لقد كان لي شرف مراجعة كتاب ” تاريخ لبنان ” بططلب من المترجم واتفاق مع دار النهار للنشر , التي كان يشرف عليها المرحوم محمد علي حمادة انذاك . فاعتبرت الكتاب تراثا لبنانيا وقيمة وطنية علي ان اسهم بما لدي نحوه .
لاحظت ان بعض التواريخ المعتمدة فيه تعود لمراجع تخطتها الكشوفات الاركيولوجية , في ارض العراق بوجه خاص , وشئت ان الفته , لذلك , لكني ترددت خوفا من اتهامي بالفضول , وعندما جاءت مناسبة , في سياق حديث معه , فاتحته بالموضوع فاجابني بكل نبل واحترام للذات بقوله : “انها امور جزئية لا اهمية لها في الغاية التي ذكرتها لاجلها , وهي البرهان على مبادئ اريد اظهارها . ومع هذا عليك ان تفعل ما تراه صحيحا ” . وعندئذ وجدتني اواجه مشكلة اكاديمية اصيلة , هي ان التواريخ المذكورة حلقة من سلسة ومرتبطة ببنية المرجع الذي يعتمده , وتغييرها قد يحدث خللا في الامانة , لا يسهل التسامح به . ولكني ادركت من جوابه سلطة المبادئ على تفكيره وحرصه الكبير على الاتزام بها .
هذه المبادئ لا يستطيع قارئ جواد بولس الا احترامها , حتى وان عارضها . ومنها : ” ان السياسة بنت التاريخ , والتاريخ ابن الجغرافيا , والجغرافيا لا تتغير نسبيا ” .
هذه النظرية –المبدأ , لا تقل بأهميتها عن نظرية المؤرخ “تويني” التي تقول بالتحدي والاستجابة في وقائع التاريخ , او عن نظرية الماركسية الديالكتيكية القائلة بتحكم الاقتصاد بمسيرة التاريخ . بل اني اراها اكثر واقعية واصالة منهما معا لالتزامها الارض وشروطها الحاسمة .
واني الفت هنا , انصافا للراحل الكبير وللحقيقة الى ان هذه النظرية الجغرافية في فلسفة التاريخ لم تكن مشهورة وذات نماذج برهانية واسعة قبل نشر جواد بولس موسوعته التاريخية في اوائل الستينيات , وهكذا من حقنا ان نعتبرها فكرة كبيرة , عالمية الوجه والخطوط , انطلقت من بلد صغير لا اجماع على فكرة تاريخية لدى ابنائه . وهذا كان عملا بطولي النسج , لا يحققه الا مبدع ملهم , يتجاوز عصره وبيئته الفكرية .
الأكاديمية الغصة …ودرسا للتاريخ
في السبعينات أنشأ جواد بولس ورفاق أنداد له تجمعا ثقافيا , رفيع المستوى خلناه الاكاديمية الاولى في تاريخ لبنان الحضاري , لبراءته من الشكوك و “لولوات” اللبنانيين . وقد كنت اتسقط اخبار هذا التجمع القيادي دوريا من الصديق سيمون عواد , الذي كان يقوم بدور ضابط الارتباط بين هؤلاء الشيوخ الاكرمين . وقد عقدنا امالا كبارا عليهم لكونهم التقوا , دون مراسيم وقرارت , بل باسم القيم الخلقية القيادية والنتاج الثقافي المتميز الذي يشكل هويتهم.
ولم يبق لنا اليوم منهم سوى الغصة والشيخ الكبير سعيد عقل , وامنية عزيزة هي : ان يقوم احد مؤرخي الادب بتسجيل وقائع هذه التجربة التي حدثت فوق ارض لبناننا المعاصر , لعلها تكون انموذجا لكبار اخرين قد لا يبخل بهم الوطن الصغير الكبير .
وختاما ليس لنا سوى التذكير بالمبدأ الذي انطلق منه جواد بولس الحاضر بيننا دائما في معالجته لتاريخ لبنان وهو ما لفتنا اليه في مطلع كتابه ” تاريخ لبنان ” حين قال : ” ان الغاية من هذا الكتاب هي المساعدة على فهم افضل للبناننا المعاصر بما له من مشاكل معقدة وشخصية اصيلة ورسالة خاصة ودور وساطة بين العالم القاري الشرقي وعالم البحر المتوسطي الغربي , وذلك بنظرة استشراق الى مسيرة تطور هذا البلد منذ اقدم العصور ” . اي انه كان ينصح بدراسة التاريخ لفهم سياسة لبنان .
ولمن همتهم اللغة والدين , التي توحد بين افراد المجتمع البدائي هي , بالنسبة للمجتمعات المتحضرة المتطورة عناصر ثانوية , كثيرا ما تتغير على مر العصور , دون ان تغير في الطبائع الاساسية والقومية التي تكون المحركات الحقيقية للنشاطات الانسانية ” .
خرجة
لقد رحل عنا جواد بولس دون ان يفارقنا برسالته . وعند رحيله كنا نبحث عمن يعطينا اذن عبور او كلمة سر تحمينا للانتقال من ييت لنا في منطقة منكوبة في لبناننا الى بيت اخر في عاصمة مناطقه , وكاننا كنا نعيش لاثبات مبادئ تاريخه الجغرافي وتكرار ” زمن العمارنة ” قبل ثلاثة الاف واربعمائة عام , رغم اننا في عهد اذلال اله الحرب ” المريخ” , وهتك سره وكشف وجهه واسراره لعين ” باث فايندر” الحادة النظر والتطلع…
رحل عنا ولكننا نحسه مقيما بيننا يراقب كل ما يقال ويكتب عن لبنان ودوره الاقليمي والعالمي.


شهادة الدكتور وليم الخازن

الأمة الجغرافية و الشخصية اللبنانية..
.. و إن في لبنان لشعبا

رجل الحضور .. في لبنان و العالم :
بدء معرفتي به :
جواد بولس مثقف و مؤرخ عملاق. امتلكني هذا الانطباع مذ تعرّفت إليه عن كثب في منزل الكاتب و السياسي الفلسطينيّ الأصل محمّد علي الطاهر (١٨٩٤ – ١٩٧٤) منشىء جريدة ” الشورى ” القاهريّة في العشرينيات ، و حامل الجنسيتين المصرية و المغربية إلى جنسيته الأصلية.
قصدت مقام محمد علي الطاهر في شارع جاندارك المحاذي للجامعة الأميريكية عام ١٩٧٢، لكي أجري معه مقابلة ترفد الأطروحة التي كنت أعدّها في جامعة القدّيس يوسف بإشراف الأستاذ الأكاديمي الكبير الدكتور جبور عبد النور ، و عنوانها ” معالم الوطنية في الشعر اللبناني الحديث من مطلع النهضة إلى عام ١٩٣٩”.
حالفني الحظ أن كان اليوم الذي اخترته لمقابلة الطاهر ( وأظنه الأربعاء ) موعدا أسبوعيا للقاء نخبة من رجالات الفكر و السياسة و الثقافة و التاريخ و المحاماة في منزله. و بينهم المحامي اللبناني الامع سليم ، و المحامي جواد بولس ، بقامته الفارعة ، و جمال طلعته ، و بريق عينيه ، فارضا شخصيته و علمه على الحاضرين ، يسأل فيجيب عن كلّ ما يتعلق بسياسة لبنان و العالم العربيّ و تاريخهما و حضارتهما. و لم أتوان في المشاركة بسؤاله و الإفادة من علمه و اطّلاعه الواسع.
وعزّز تقديري لجواد بولس ، من بعد ، تصدّر اسمه أسرة مجلّة ” الفصول اللبنانية ” التي ظهرت ، بعددها الصفر ، خريف ١٩٧٩، فوق أعلام عظام ، ألا و هم : شارل مالك ، فؤاد أفرام البستاني ، إدوارد حنين. و كان مقاله الأول في العدد الصفر بعنوان : ” الشخصية اللبنانية المميّزة في تاريخ لبنان الحديث “. و تابع المقال ، بالعنوان نفسه ، في العدد الأوّل من المجلة الصادر شتاء ١٩٨٠.
و ظل اسمه تاجا على رأس مجلّة الفصول اللبنانية حتى العدد الثامن من سنة ١٩٨٢، و هي السنة التي خسرته فيها مجلّة الفصول. كما خسره لبنان و العالم العربي ، مفكّرا عالما ، و مؤرخا ثقة ، و وطنيا صادقا مخلصا . و قد فقد فيه لبنان خصوصا أبرز من حلّل و بلور و أثبت الشخصية اللبنانية المتميزة.

حضوره العلميّ :
و تيسّر لي ، بعدئذ ، الاطّلاع على موسوعته المهمّة في خمسة مجلّدات باللغة الفرنسية بعنوان : ” شعوب الشرق الأدنى و حضاراته منذ الأصول حتّى أيامنا ” ، و قد قدّم لها المؤرخ البريطاني العالمي أرنولد توينبي (Arnold Toynbee، ١٨٨٩ – ١٩٧٥) ، فبهرني شمول ثقافة المؤلّف و سعة معرفته ، و لم أجد مبالغة في إطراء أئمة السياسة و التاريخ و الحضارة و النقد ، في لبنان و العالم ، لعملع ، و إقرارهم بموضوعيّته و فائدته ، و منهم الرئيس الفرنسي شارل ديغول، و عميد الأدب العربي الحديث طه حسين. و لم يبالغ الكاتب الناشر سيمون عوّاد عندما افتتح تقديمه لكتاب جواد بولس الصادر عام ١٩٨٢ بعنوان : ” اتلتحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الادنى منذ الاسلام ” بقوله : ” يعدّ جواد بولس من خبراء السياسة في قضايا الشرق و الغرب “.
” التحولات الكبيرة ” كتابه :
و ما دامت في كتاب ” التحولات … ” يحسن بي التوقّف عند المقدمة العامة لهذا الكتاب ، و عند التمهيد الذي بحث فيه المؤلف عن التاريخ باعتباره علما و فلسفة :
لقد عرض في المقدمة غايته التي تبيّن غزارة علمه ، و موضوعيته في البحث و التأليف ، و تواضعه في وصف الجديد الذي جاء به. و كم يحتاج مشرقنا العربيّ إلى صفة التواضع الملازمة للعلماء الحقيقيين !حرانا بالاستماع إلى العالم جواد بولس يقول : ” و كلّ ما جئنا به من جديد في
هذا الموضوع، هو ترتيب الأحداث وتنسيقها وتقسيمها، كما يقضي مفهوم الأحداث أو معناها الحقيقي” (ص ٩).ولا يخفى ما يقتضيه وضع الأحداث التاريخية تحت مجهر المفاهيم الصحيحة والمعاني الحقيقية من جهد ومعرفة وعلم في الميادين السياسية والعسكرية والإجتماعية والإقتصادية التي يدور حولها الكتاب.
ومما يبين ثقافة المؤلف الواسعة في مقدمته ما نقله من أقواله كبار المؤرخين والمفكرين والسياسيين الأجانب في وصف كبار المؤرخين والمفكرين والسياسيين الأجانب في وصف مهمة التاريخ وأهدافه وأفضاله. والأقوال جميعاً موثقة بمصدرها ومراجعها الأجنبية (ص ١١-١٢)، وهي حسنة ألإختيار، طريفة، شائقة، معبرة. وكما يقول الجاحظ في “البيان والتبيين”: “إن اختيار المرء قطعة من عقله”.
وفي التمهيد للكتاب عنوان يقول إن “التاريخ العلمي يتحرى الأسباب العميقة للأحداث” (ص ١٦). وفيه قول مهم لأحد العلماء يصلح لأن يكون خطة لكل باحث ودارس: “يبنى العلم على الوقائع، كما يبنى البيت على بحجارة. ولكن تكديس الوقائع ليس علماً، كما أن كومة حجارة ليس بيتاً” (ص ١٧). ويؤكد منهجه الموضوعي العلمي في تأريخه للضروري المفيد بقوله: “وبما أن الشعوب قد أصبحت اليوم، بفضل الوعي العام الذي رافق نهضتها الحديث، ملكة أمرها وشركة حكامها في تقرير مصيرها، فقد بات من الضروري أن تعرف ماضيها معرفة علمية اكيدة، لا معرفة أسطورية أو خيالية أو رومانسية” (ص ١٩).
ويبين التمهيد الأهمية الكبيرة التي يعطيها جواد بولس للجغرافية في رفدها التاريخ بما لا يمكن الإستغناء عنه لمعرفته معرفةً علميةً متكاملة.وهذا التوجه أؤيده بما جاء في عنوان من عناوين التمهيد، من دون أن أتورط وأورط القارئ في التفاصيل: “الجغرافيا عمل جوهري في التاريخ” (ص ٢٠). ويورد المؤرخ نحت هذا العنوان قولاً لنابوليون: “إن سياسة الدول هي في جغرافيتها”.
وكلبنانيين، وحرصاً منا على توضيح نظرة جواد بولس إلى الجغرافية الملازمة للتاريخ نورد هذا المقطع من كتاب “التحولات…”: “وقال العالم الفرنسي بلانهول : [إن جبل لبنان هو أعلى قمة في بلدان الشرق الأدنى، إذ يتجاوز ارتفاعه ثلاثة آلاف متر، كما أنه الأوفر نصيباً بالثروات المائية… وينعم، علاوة على ذلك، باتصالٍ مباشرٍ بالبحر المتوسط، إذ تشرف جباله الموعرة عل خلجان الشاطئ ومرافئه… وهذا الطابع المزدوج يجعل من لبنان، الجبل العالي، صنواً للإستقلال، ومن لبنان الجبل البحري، انفتاحاً على التأثيرات الخارجية، يفسر لنا سر لبنان كدعامة لبناء سياسي هو من أقوى البنيات السياسية في الشرق الأدن ومن أكثرها أصالةً]” (ص ٢٣).
ويستنتج قائلاً: “وبالنتيجة، فإن ما يؤلف أمة جغرافيا صحيحة جوهرياً أو تاريخياً، هو مجموعة منظمة من أفراد متشابهين نفسانياً، ارتضوا أن يعيشوا معاً ويتعاونوا في إطار منطقة أو متقاطعة معينة. أما العناصر الخارجية (الجنس، اللغة، الدين< التاريخ…)، التي تساهم في تكوين الوحدة القومية أو تنميتها، فهي عناصر ثانوية ومتغيرة” (ص ٢٥).
ونتوقف خصوصاً، في هذا التمهيد، عند ما جاء في آخره، لأنه موضوع مطروح بإلحاح على الساحة اللبنانية في وضعها الحاضر: “إن لبناني اليوم هم خلفاء جميع الشعوب التي عاشت تباعاً في لبنان منذ فجر التاريخ. وقد طبعتهم، بدون توقف، البيئة الجغرافية اللبنانية بطابعها الميز، ولا نستثني هنا السابقين منهم أو اللاحقين. فإذا اردنا مقارنة الشخصية اللبنانية بسائر الشخصيات الشرقية، نجد أن الشخصية السورية حيو الأقرب إليها. غير أن اختلاف البيئة الجغرافية في البلدين (الجبل والبحر في لبنان، والواحات والبادية في سورية، يجعل منهما، رغم التصاقهما جغرافياً، اقليمين مختلفين جغرافياً وسياسياً، يكمل احدهما الآخر إقتصادياً” (ص ٢٧).
الشخصية اللبنانية والتاريخ العربي:
• الشخصية اللبنانية.
كرر جواد بولس نظريته بأثر البيئة الحسم في تكوين الشخصية الانسنية في معظم الدراسات التي نشرها، ومنها الدراسة المطولة التي جاءت في عددي مجلة “الفصول اللبنانية”: الصفر والأول، وقطع كل شك في ما ذهب إليه قائلاً: “لقد اسهمت البيئة الجغرافية اللبنانية، ولا تزال تسهم، في تكوين الشخصية الجماعية واستمرارها بالنسبة إلى سكن لبنان وطبائعهم المميزة. كما أن البيئة الجغرافية، في معظم بلدان العالم، قامت وتقوم، بلا انقطاع، بدور ممثل في تلك البلدان”. ومع ذلك يخالف رأي المحامي والقانوني الشهير إدمون رباط (١٩٠٤-١٩٩١) في كتابه باللغة الفرنسية: “التكوين التاريخي للبناء السياسي والدستوري”، ولذي جاء في خاتمة فصل طويل له فيه بعنوان “خصائص الشخصية اللبنانية” (L’Entite Libanaise) ما ترجمته: “وهكذا تكونت خصائص الشخصية اللبنانية، واخيراً، بعد أربعة قرون وليس أربعة آلاف سنة من التاريخ”… ويركز ادمون رباط، خصوصاً، على الفتوحات والهجرات التاريخية دخل لبنان، كما من، الخارج بدءًا من عهد المعنيين (١٥١٦-١٦٩٧)، ولا يعطي الأثر الجغرافي أهمية لافتة.
ولم يكن لبنان يمثل، بنظر رباط، قبل ذلك، سوى تعبير جغرافي يدل على الحلقة الأثر بروزاً في سلسلة الجبال التي تمتد من الشمال إلى الجنوب في سورية السامية، مستنداً في رأيه هذا إلى دوائر المعارف والمعاجم الغربية القديمة، وغير ملتفتٍ إلى ما فيها من تسرعٍ وغرضية.
• التاريخ العربي.
وفي تركيز جواد بولس على الشخصية اللبنانية المتميزة، لم يغفل التاريخ العربي، مظهراً التحولات الكبيرة التي حدثت فيه منذ الإسلام حتى زمان العثمانيين. وقد تطرق إلى التاريخ العربي بدراسات مستفيضة في مجلة “الفصول اللبنانية” نكتفي بعناوينها المعبرة:
في العدد الثاني من مجلة الفصول، الصدر ربيع ١٩٨٠, عنوان: “لبنان وسوريا وفلسطين منذ الإسلام؛ عرض تاريخي مقارن” يقول تحته: “إن كلمات سوريا هي تعبير جغرافي، لا سياسي، ولا اتني” (ص ٦). وفي العدد الخامس – شتاء ١٩٨١٬لمقرن بالعدد السادس – ربيع ١٩٨١٬ دراسة طويلة بعنوان، “بلدان المشرق العربي منذ الإسلام؛ موجز تاريخي مقارن”. وقد تبع هذه الدراسة في العددين: السابع – سيف ١٩٨١٬ والثامن – ١٩٨٢.
إلى أنا القارئ يلمس لدى جواد بولس اهتماماً خاصاً بالموارنة، وبأوضاع المسيحيين عموماً وذرهم في المجتمع الاسلمن، واسهامهم الكبير في نهضته وتطوره، خصوصاً في عهد بني أومية. يقول: “إن الخلفاء الأمويين، باتخاذهم عمشق عاصمة لدولتهم كانوا يركزون على سورية الآرامية، التي ظلت مسيحية، بأكثرية سكانها، حتى زوال الدولة الأموية… ولم يحدث التمييز بين المسلمين وغير المسلمين، إلا في عهد الخلفاء العباسيين، وعاصمتهم بغداد، وبالأخص في زمان الخليفة العباسي المتوكل على الله (٨٤٧ – ٨٦١)”.
خرجة:
وهكذا، كان جواد بولس شخصية لبنانية فدة، حريصة على أوضاع المسيحيين في المجتمع العربي الإسلامي، كما حرص على إعطاء التاريخ العربي الإسلامي صورة صادقة، لا تتناقض، عموماً، وما في لبنان من تعددية مذهبية ثقافية. واهتم بالمجتمع العالمي لأنه مصدر ثقافة وفلسفة وعلوم لا غنى عنها في بلد يواكب الحضارة العالمية الجديدة، ويحاول أن يكون له موقع فيها. وهو، في ذلك، غير متزمت ولا متعصب ولا مرتهن، بل منفتح، وذو نزعة ديمقراطية شعبية، يعتز بما يتمتع به شعب لبنان ن حرية ومعرفة، ومن تشبث بالعزة والكرامة والإستقلال. وهو مع لمارتين في قوله الشهير: “إن يكن في هذا أو ذاك من بلدان الشرق رجل، ففي لبنان شعب”. وذلك في عهد الإمارة والإقطاع، فكيف في عهد الحرية والمعرفة والإستقلال؟


شهادة جورج سكاف

جواد بولس… كأنه لبنان:
قيم خلقية بامتداد الأعالي،
وثقافة بوساعة البحر.

هو.. يوم لي أخٌ صديق:
“هس الإستاذ هنا”!
ويخيم على البيت الكبير جو من الوقار، فيه من الخشوع والرهبة، مقدار ما فيه من التقديس لم يقوم به الإستاذ، ولما يعمل له.
ذلك أن كل من في البيت، كان يدرك مدى تعمق الأستاذ في البحث والتدقيق عند الكتابة، ومن الإنتباه عند المطالعة، والجدية عند الحوار أو النقاش.
دخلت ذلك البيت الرحب، لا لأتعرف إلى الإستاذ الكبير، بل كصديق ورفيق للجبل الجديد ممن كان في ضيفته من أبناء أخيه.
لكن الأستاذ خرج من رهبة المكتب، حيث الكتب والأوراق والملفات تملأ الرفوف والطاولة والمقاعد – كم بدا أنيساً وقريباً من القلب! – فرحب بكأحد أعز المقربين، وأصر علم للبقاء وتناول الغداء معهم. وبقيت أكثر من ثلاثين سنة أشعر كأني من أهل البيت، وأنني للأستاذ الأخ والصديق، التلميذ والرفيق.
أحببته وقدرته.
شعرت منذ اليوم الأول لدخولي بيته، كأبي أدخل بيتاً للفكر والصداقة.
كان يبادرني، كلما التقيته، بومضات مما كان يقرأ، وما أكثر ما كان يقرأ: فكأنه يلتهم إلتهاماً كل جديد في العالم، فيكون أول ما من استحصل عليه، وقرأه، دون على هوامشه ملاحظاته، محدداً ما فيه من أفكار جديدة، وتعابير موفقة، فأشعر كأنه يشاركني ما اكتشف من درر الفكر.
وكان، كما ليريح تفكيره في أثناء تناولنا الغداء معاً أو في نزهاتنا، ينتقل إلى الحديث في السياسة اللبنانية، والسياسيين اللبنانيين، الذين يزورونه يومياً، وكأنهم يحجون إلى حرام القومية اللبنانية، ومقام السياسة الحقيقية في أرقى مظاهرها. فنتناولهم أقوالاً وأعمالاً يومية عادية ليقومها تقويماً بنظرة من عل، وفقاً لتطلعاته الحضارية والاجتماعية العالمية، ويرتفع بها وبنا عن المبتذلات الرائجة إلى كل مستوى سام شريف.
السياسة، الأمة الدولة، والنظام:
مارس جواد بولس السياسة دون أن يتلوث، مارسها بروح الجبلي، الصلب الأبي، ولكن بروح المثقف أيضاً، المنفتح على العالم، كان يتطلع دائماً إلى دور للبنان في مستوى تاريخه العريق، ومستوى التحفزات التي توفرها لو إمكاناته الطبيعية الواسعة الدائمة التفاعل.
وعلى الرغم من احاطته بوقائع السياسة على ترفع، ومن تهافت السياسيين عليه بئغراءاتهم الكذرم فقد ظل يتعاطى معها ومعهم على نحو ابقاه مرجعاً بل ملجأ في الملمات والصعاب، وذخراً يدخر إلى اليوم الأفضل، المتضمن وعداً بتحقيق الأحلام.
كان جواد بولس في سنة ١٩٥١٬ قد بدأ كتابة فصول من موسوعته الكبرى “تاريخ وحضارات شعوب الشرق الأدنى”. إلى أنه كان دائم الحضور في الصحف، من خلال أحاديثه السياسية والفكرية والتاريخية. كما كان دائم الاطلالة فوق المنابر محاضراً. وقبيل الإنتخابات النيابية في ذلك الزمن، ألقى محاضرة في “الندوة اللبنانية” في موضوع الدولة الحديثة، فجاءت بمثابة درس، في العمق حول القضية اللبنانية، وطريقة العمل لتطوير لبنان نحو الأفضل. أذكر، وكنت في أول عهدي بالقلم، أني كتبت معلقاً على المحاضرة: درسٌ علميٌ رصين عن الدولة والأمة قديماً وحديثاً. فالأستاذ بولس يرد تكوين الدولة إلى ثلاثة عناصر هامة هي: جماعة البشر ثم الوسط الجغرافي أو الأرض، ثم السلطة أو الحكومة. فالبشر لهم روح المجتمع وقلبه، بينما الأرض هي الجسد، أما السلطة فالرأس واليدان.
ومما أذكره له أن مفهوم الأماكن يعني قديماً جماعة من الناس متعددة الطبقات، مختلفة القبائل والطوائف والألسنة، فما يجمع بينها سوى سلطة الحاكم الواحد. أما الأمة اليوم فالجماعة بشرية تعيش على أرض مستقلة، ويجمع بين افرادها الميل المشترك والإرادة المشتركة والمصلحة المشتركة، أي انها تعني وحدة طبيعية. انها جسم منظم متآلف، عائلة وطنية، أما سلطة الحكم التي كانت تستمد من لدن الآلهة ثم من القوة، فأصبحت من إرادة الشعب، هكذا اضمحلت شيئاً فشيئاً سيطرة الدين وسطوة القوة.
وعن النظام الديمقراطي السائد في عصرنا قال إنه جعل الحكومة تمثل جزءًا من الشعب، الأكثرية غالباً، في حين أن الصحافة وحدها تعبر عن الرأي العام، لأنها تمثل الشعب بأسره.
ورأى أن عالم اليوم يتنازعه نظامان: نظامٌ ديمقراطي ونظام دكتاتوري جماعي. والتاريخ ما برح يعيد نفسه. فالحرية تؤدي إلى الفوضى، والفوضى إلى الدكتاتورية، والدكتاتورية إلى الحرية من جديد، وليس لهذه الحالة من نهاية. ولكنها حالة تطور بطيء. وما خروج الإنسان من المغاور المظلمة إلى كل ما توصل إليه القرن العشرون إلا بشير بمستقبل أفضل.
الشعوب، تحولات تاريخية، ولبنان الوطن:
تبع جواد بولس تعمقه في درس التحولات التاريخية للشعوب والدول، ليستخلص منها خصائص لبنان ومقومات شخصيته المميزة، وتوصل إلا مفهوم علمي واضح للأمة الحديثة، عبر عنه في الندوة البنانية عامي ١٩٥٣ و ١٩٥٥ بما معناه: إن العناصر التي اتخذت محكماً لمفهوم الأمة ليست سوى مظاهر مؤقتة تهيئ وتساعد على خلق الأمة، ولكنها لا تفرضها. وهذه العناصر هي: الجنس، الشكل ولون البشرة، أما الغة، فمع أنها تخلق رابطة روحية فإنها لا تحمل على ذلك والدليل من سويسرا وبالجيكا وكندا، كما أنها لا توحد دولاً مستقلة ناطقة بلسان واحد كما انكلترا والولايات المتحدة الأميركية، أو البرتغال والبرازيل… وكذلك الدول العربية.
ثم الدين الذي هو كالفقر إحدى مقدسات الحريات الفردية، كثيراً ما يختلف الأخ وأخاه على اعتناقه كما يختلفان على فكرة ما. لكن التاريخ يبقى الأهم، لأن الناس الذين تجمعهم الظروف في مكان ما، ويشتركون معاً في المصالح لا بد أن يتوصلوا إلا إنشاء أوطان مستقلة. هكذا حصل في أوروبا واميركا.
وتوصل المحاضر – كما كتبت في ذلك العهد – إلا تحديد الأمة الحديثة بأنها “جماعة من البشر تعيش بتناسق في منطقة معينة، تجمع بينها المصلحة الواحدة والرغبة في العيش معاً”. وانطلاقًا من هذا التحديد جاء استنتاجه: إن جميع سكن لبنان يؤلفون وحدة وطنية. فلبنان، هذه البقعة من الأرض التي حبذا الطبيعة صفات خاصة، قد طبعت اللبنانيين بطابع خاص، فجعلتهم متناسقين في العيش، يؤازر بعضهم بعضاً، في جهاز حكومي مشترك. وهي، هذه العوامل الطبيعية، التي تجل اللبناني يختلف عن سواء من سكان الأرض المجاورة”.
هذه الدروس حفظتها منذ ثلاثين سنة، وهي ما تزال طريق العمل السياسي لكل أبنأبنأ لبنان الحديث.
وفي كل سنة، كانت أفكار جواد بولس تزداد وضوحاً وتوكداً وترسخاً، حتى غدت من الثوابت التي يقوم عليها كل بحث وتحليل ودراسة.
فهل من لا يزال يجهل أن لبنان “هو تزاوج متكامل بين الجبل والبحر”؟.
وأن الجبل يقف سداً منيعاً بوجه التيارات التي تهب عليه من الصحراء، ويدير وجهه نحو البحر، باباه الواسع إلى العالم؟.
وأن الأرض هي التي تطبع الإنسان بطابعها الخاص وتقولبه بقلبه، فتميزه عن كل ما عداه؟ وانوءًا الاوجات البشرية التي تدفقت على لبنان، قد تلبننت وقد أصبحت لا تختلف في شيء عن اللبنانيين الأقدمين، كنعانيين وفينيقيين؟.
الرجل المؤسسة.. حتى النفس الأخير:
ولقد جسدت أفكار جواد بولس كتب عديدة وصدرت عن أكبر دور النشر في العالم، وهي تدرس في أكبر الجامعات وأرقاها، إلا أن الرجل ظل ملحاحاً في ابحاثه لترسيخ الكيان اللبناني، وبتوضيح فرادة القومية اللبنانية، وتميز شخصه انسانة عن كل أبناء الشرق. فغدا مؤسسةً فكرية بشخصه فما يزور لبنان مفكر أو سياسي أو أديب إلا ويؤم دارته، ليجتمع به ويستمع إليه شارحاً محللاً ومتوغلاً حتى أعماق المسائل، وليوضح له القضايا التي باتت شغل العالم الشاغل، بعدما استقطبت قضية الشرق الإهتمام الدولي… وظل هذا الرجل – المؤسسة، كما عرفته، الصديق والرفيق، المعلم والمحدث، المرجع والقارئ المتعطش دائماً للإطلاع على كل جديد.
ولم تزده المحنة التي ضربت لبنان، في السنوات الأخيرة، إلا بإيماناً بيزة البلد الصغير، لكنها شحذت نفسه فتفجرت ثورة ونقمة على الذين كانوا سبباً في تقهقر لبنان ويحتتة وانهياره.
أخرجته المحنة من بيته، الذي كان صومعة فكر، ليقيم صومعة جديدة في دير “يسوع الملك”سرعان ما تحولت إلا محجة لكل من يسعى إلا الأصول، ويرد الينابيع، وظل عاملاً من أجل لبنان بالفكر والبحث وبالحجة.أما صيفاً فيعود إلى اهدن لمجاورة الذرى والتزود بالصفاء تأملاً في المسائل وتعمقاً، ويزداد نشاطاً واقدماً. وظل حتى سعاته الأخطر يكتب، يطالع ويشرح، حتى وداعه ايانا في المؤتمر الصحافي الذي قدم فيه آخر كتبه.
خرجة:
هذا الذي ولد مع العصر، لم ندرك وهو بيننا، كم كان أكبر من العصر ومن كل عصر، بثقافته الواسعة وأخلاقه العالية، وخاصة بشخصيته التي لا يمكن أن توصف إلى بما وصف به لبنان. المزيج الساحر المتوازن من جبل وبحر، من شموخ وانبساط، من القيم الخلفية التي بامتداد الأعالي، والثقافة التي بواسعة البحر.


ثالثاً…

وصولاً إلى دارك الذي من قياس:
نسكن بيتاً وحيداً هو العالم
بعده الكون يب،
والوقت منكسر الخطو.. سنجاب،
سفر مجهول بلا طاقم
وخصصت بنا القول صيفاً.
قلت: هذي هي الحقيقة
عقل يقود سفينة الإمكان
تنقاد به مضائق.. خلجان
يأتال بياس الشك زهر الحديقة
حملته قياساً فتياً،
أرضاً.. محيطاً، جبلاً عصباً،
وبين بين يدي وأحلامي
قلت:
المدى القريب ليس مرامي،
والأبعاد الأبعد حنينٌ إلى شروقي،
وفرادة بروقي.. أن بمنهجين:
ذي لسمرتي الأقرب
وتيك.. لتوقي الأغرب،
وما أنا باثنين.
واحداً غدا هذا العالم،
سفر الأرض بلا لبنان..
بلا حنان
ولا طاقم.
“الحكمة”

في عشر بالترتيب الألفبائي لأسماء الباحثين:
– الدكتور حسن حلاق: أحد دعاة القومية اللبنانية، ونختلف معه منهجاً، وفي النظرة إلى التاريخ.
– الدكتور كريستيان الحلو: جواد بولس المؤرخ: التاريخ صانع القادة، والأرض.. غلاف جسدٌ للأمة الروح.
– السفير محمد علي حمادة: جواد بولس، قارئاً تاريخ مصر: تبسيط علمي للأحداث، وشواهد على استمرارية القدم في الحاضر.
– ادوار حنين: الغائب الذي لا يغيب.. خزانة معر على قدمي، ولا حيث الواجب.
– الدكتور نقولا زيادة: “تاريخ لبنان” جواد بولس: للبنان التفرد الإقليمي.. داخل أمة جغرافية إجتماعية واحدة.
– الدكتور علي شلق: “تاريخ شعوب الشرق الأدنى وحضاراته” في الميزان: ولا يضيره أنه بلغةٍ غير لغة قومه.. فنحن نسكن بيتاً واحداً في العالم.
– سيمون عواد: التاريخ مع جواد بولس: بالمنحى الحضاري الذي عرفه لبنان.. مهد له، فدخل عصر العولمة.
– الدكتور جوسف لبكي: “لبنان جواد بولس.. رسالة انجذاب طبيعي، شرقاً وغرباً، وعمل أمينة على خصوصياتٍ وفرادة.
– جورج مصروعة: المؤرخ العالم والفيلسوف.. له التاريخ لا ثوابت إلى بمقدار، ومثله الجغرافيا.
– ميخائيل نعيمة: “لبنان والبلدان المجاورة”.. علمٌ على سنن.. في مدى البصر الإنساني القاصر.


شهادة الدكتور حسان حلاق

أحد دعاة القومية اللبنانية.
ونختلف معه منهجاً، وفي النظرة إلى التاريخ.

إبن البيئة والأحداث؛
يعتبر جواد بولس من المؤرخين اللبنانيين البارزين، ومن الذين نهجوا منهجاً تاريخياً له مقوماته السياسية والإجتماعية والفكرية. ولعل الخلفية المناطقية والعائلية والمدرسية والتربوية قامت بدور بارز في تكوين شخصيته، وفي تكوين أفكاره، وفي توجهاته ومنطلقاته. فهو من جهة إبن زغرتا، تعلم على كهنتها وعلى رهبان دير مار سركيس الأنطونيين. من جهة ثانية هو إبن أسرة غنية، أمنت لو الإلتحاق بمعهد الحقوق الفرنسي التابع لجامعة القديس يوسف؛ كما أنه عاش في بيئة وارث منها كراهية الحكم العثماني بسبب نفي جدة إلى استانبول، وبسبب موقف المسيحيين عامة من هذا الحكم.
والحقيقة أن جواد بولس لا يعتبر مؤرخاً تقليدياً، بل هو محامين بالدرجة الأولى، وسياسي من الدرجة الرفيعة، فقد كان مقرباً من السلطات الفرنسية، ولهذا اختير قبل الإستقلال وقبل الميثاق الوطني وزيراً في حكومة آذارمارس ١٩٤٣ الثلاثية. وفيما بعد استمر متألماً لأن القاعدة الشعبية لم توصله انتخاباً إلى الندوة النيابية.
إن التجربة السياسية التي خاضها جواد بولس جعلته يقتنع أنا العمل الفكري يبقى أجد نفعاً، وكثر أثراً، وأعمق فكراً لهذا توجه نحو الإهتمام بإعداد البحوث والدراسات التاريخية وتأليفها، ومنها ما يتعلق بتاريخ لبنان وبلاد الشام، وتاريخ الشرق الأدنى القديم، وتاريخ الشرق الأدنى منذ فجر الإسلام، وسوى ذلك من مؤلفات ومقالات.
المفكر.. وداعية القومية اللبنانية:
ومن الأمور، لافتة النظر في منهج جواد بولس، أنه في وقت تعتبر الوثائق والمخطوطات والمصادر الرئيسية هي الدعامة لكتابة التاريخ، ومن بينها تاريخ لبنان، نرى أنه ابتعد عنها، لسبب أو لآخر، واعتمد على مصادر ومراجع دونها في المنزلة، وعادية.
ثم إن هذه المصادر تمثل وجهة نظر وحدة، علماً أن من الأساليب العلمية في كتابة التاريخ “أسلوب المقارنة”، المعلومات اللازمة وتحليلها.
لذلك رأى الكثيرون أن جود بولس مؤرخ على معنى المفكر السياسي، وليس مؤرخاً بالمعنى الصحيح. ولعل خلفيته هي تلك أثرت في توجهه وفي كتاباته. وللأب انطون ضو رأي مفاده “أن ما كتبه جواد بولس يعتبر مراجع هامة لأهل السياسة و الحكم ، و مختصرات أو مطوّلات لتثقيف المثقفين ، و مرجعا لتيارات لبنانية ، كمنظري الجبهة اللبنانية و مفكري الكسليك و دعاة القومية اللبنانية ” .
و نراه في ما يخصّ إنشاء دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠ ، لا يختلف في نظرته عن بعض المؤرخين اللبنانيين من أن لبنان ليس وليدا حديثا ، بل ” دولة عريقة من أقدم دول العالم “. فهو آمن بلبنان و بالقومية اللبنانية ، و رفض أن يكون جزءا تاريخيا من سورية الكبرى و بلاد الشام ، كما رفض مشروع الوحدة العربية ، و أكد بطلانها مع فشل وحدة مصر و سوريا.

خرجة :
و مهما يكن من أمر فإننا نختلف اختلافا واضحا مع الكثير من طروحات جواد بولس ، سواء في منهجه التاريخي ، أو في نظرته إلى تاريخ لبنان و العالم العربي و العالم. و لعلّ تسخير التاريخ للسياسة ، و لا سيّما السياسة اللبنانية جعل منه مؤرخا لفريق من اللبنانيين.
و لا ننكر أن جواد بولس جعل من نفسه ، على مدار خمسين سنة ، محورا هاما من محاور الفطر و السياسة و التارخ في لبنان.


شهادة الدكتور كريستيان الحلو

التاريخ صانع القادة..
و الأرض .. غلاف جسد للأمّة الرّوح

الرجل الخلاصة لثقافتين :
في زمن يدأب جهابذة التاريخ في لبنان على وضع برامج جديدة لتعليم مادة التاريخ تنشر في كتاب موحّد ، نتذكّر جواد بولس الذي كان يردّد دائما : ” ويل لأمة يحكمها سياسيّون جهلة في التاريخ و الجغرافيا. من هو رجل الدولة الذي يجهل التاريخ ؟ هو معلم لم يسمع بالكتب و لم يدرس يوما. فكيف به يعلّم ؟ ” .
كان لجواد بولس طموح سياسيّ كبير ، لكنّه بناه على المعرفة ، معرفة التاريخ العلميّ الذي يهدف إلى إرساء الحقائق التاؤيخية و تبيان أسبابها و نتائجها. فالسياسة أتت به إلى التاريخ بعد أن أيقن أن شعوب الشرق ذات التاريخ المجيد تجهل تاريخها ، و لا تعرف منه إلاّ الأحداث التي جمّلها الشعراء.
ثقافته الواسعة و تجرّده جعلاه من أهم شهود عصره ، فجمع في شخصه الثقافتين الشرقية و الغربية ، فقال فيه المؤرخ البريطاني ألرنولد توينبي Arnold Toynbee : ” إنه أحد أهم الخبراء في الشؤون المتوسطية و الشرقية “.
فلسف التاريخ ، و برع في مقارنة أحداثه فاستنتج المبادىء الصلبة الموجهة لمساره. المقارنة عنده معادلة و من ثمّ تفسير للحدث التاريخي عن طريق ثوابت أهمّها الجغرافيا ” فالسياسة بنت التاريخ ، و التاريخ ابن الجغرافيا و الجغرافيا لا تتغيّر “.

التاريخ .. و أولويّة الأرض و الجغرافية :
التاريخ.. صانع القادة :
حدّد التاريخ فقال إنه ” تاريخ الحضارة بوجهيها المادي و المعنوي “. أما المجتمعات البشرية ، و بالتالي الدول ، فوجدت للتعايش لا ليدمّر بعضعا بعضا ، و بالتالي فالتعاون فيما بينها يؤدي إلى تقدّم الإنسان. فهو مؤرخ التزم قضايا السلام و الحرية و التطور.
خلافا للقول المأثور ، لجواد بولس التاريخ لا يعيد نفسه. فعجلة التاريخ تدور و لا تتوقف أبدا ، لكن التاريخ يشهد بدايات ونهضت جديدة يخيل للإنسان أن التاريخ يعود معها، أما سببها فهو عدد من الثوابت الطبيعية والبشرية.
التاريخ الحقيقي يهم المؤرخ كعلم، لذلك أراد جواد بولس أن يفهم التاريخ لشرحه، وسعى من خلاله إلى الشهادة والتنوير، فعمل المؤرخ هو التحليل لاستخلاص الإيجابيات من السلبيات.
أما القادة العظام فلا يصنعون التاريخ بل هو الذي يصنعهم إذا عرفوا كيف يسيرون في ركبه، إذ إن تأثير الانصاص على الطبيعة محدود، والإرادة البشرية تحدها عوامل مورثة. لكن الإنسان يستطيع أن يؤثر على المسار التاريخي إذا جاء تحركه متناغماً مع هذا المسار.
• الجغرافية و”الشخصية الجماعية”.
تأثير الجغرافيا في التاريخ، وكونها أهم ثوابته هي نقطة اطلاق الفكر التاريخي لجواد بولس، فبواسطتها يفسر نسبة كبيرة من الأحداث التاريخية ومساراتها. فالطبيعة الجغرافية تؤثر في الطبع البشري وتصقله وتؤدي إلى وجو”الشخصية الجماعية المميزة”و”الوحدة الوطنية العضوية”. “فالأمة هي بمثابة الروح للأرض التي تعيش عليها. والأرض هي نوع من الغلاف الجسدي لهذه الروح”. إن وجود الأمة يحتمه توافر أرض اتفقت مجموعات من البشر على العيش فيها والتعاون ضمن اطارها.
فالجغرافيا هي التي سمحت لجبل لبنان أن يلعب دور الحجز الطبيعي الذي أمن استمرارية الإختلاف بينه وبين جواره، وهي التي جعلت منه حصناً منيعاً للحرية والإستقلال، وساهمت في النشاط التجاري، وسمحت بالهجرة. الجبل هو حارس الدور البحري للبنان الذي أساس لنفسه “رسالة” تجارية وثقافية على مار التاريخ. وذا انفصل الجبل عن الشاطئ سياسياً انتقى هذا الدور.
عند جواد بولس تجذير التاريخ في الجغرافيا يؤدي إلى الالتزام الكلي بهذا التاريخ، مما يزيل إرادة احتكار بعد المجموعات، المكونة للبنان، لهذا التاريخ، كما يبعد ما يحوله بعدها الآخر تحديداً لبدء تاريخ لبنان معه وبه.
لم يتكلم جواد بولس على حقوق الطوائف وامتيازاتها، لأنه انتمى إلى مدرسة فكرية تاريخية فلسفية سعت إلى إيجاد القواسم المشتركة بين شعوب المنطقة، بعيداً عن الخلافات الطائفية التي لا تمت إلى الدين بصلة،وهذا الأخيرة من الثوابت التاريخية، لكن استغلاله للمكسب والمصالح الفردية ارتد وبالاً على المجموعات البشرية كافة.
هو، مسيحية الشرق، والإرشاد الرسولي:
وعند كل مسارعة إلى الكلام عل الشؤون الدينية، يبدو جواد بولس سباقاً إلى ادخال التاريخ المسيحي والماروني بالذات في سياق التاريخ اللبناني والشرق أوسطي، أي في اطاره الطبيعي.
فبعد زيارة قداسة البابا إلى لبنان وصدور الإرشاد الرسولي في ترجمته العربية، يعود فكر جواد بولس ومؤلفاته إلى واجهة التداول إذ كان النص الإرشادي واضحاً لجهة انخراط المسيحيين الشرقيين في مجتمعاتهم على تعددها.
وما كان يقوله مؤرخنا منذ عقود جاء الوقت للبدء في وضعه موضع التنفيذ بل للعودة إلى تنفيذه، بعد أن أصبح حيوياً للكنائس الشرقية والمارونية خصوصاً، وهو أحد مؤرخيها بامتياز بحكم مارونيته، فتقنع هذه بأنها كنائس تنتمي إلى الشرق وحضاراته، وأن لها دوراً أساسياً في تاريخه ومستقبله، وهذا هو السبيل الوحيد لاستمراريتها، كونها ورثة الحضارة الكنعانية، وإليها يعود الفاضل في بقاء العربية أيام العثمانيين.
خرجة:
ويعاب جواد بولس بطموحاته الرئسية؟!
لنتخيل! لنتخيل فقط، ولو إلى حين، أن رجلاً من طراز جواد بولس في مركز الرئاسة.. حلم؟ ولم لا؟ الأمل مطلوب والرجاء ضرورة.


شهادة السفير محمد علي حمادة

جواد بولس.. قارئاً تاريخ مصر:
تبسيط علمي للأحداث..
وشواهد على استمرارية القدم في الحاضر.

الأحداث التي تعاقبت على مصر خلال تاريخها الطويل، تبرز الثوابت التي تحكمت في حياة وادي النيل، وخطت للشعب المصري سياسة حكامه الداخلية والخارجية.
الجغرافيا ثابتة التاريخ:
يرى العالم المؤرخ جواد بولس أن العوامل الجغرافية خطت وحددت اتجاهات مصر في منطقة الشرق الأدنى، وفي علاقاتها الإنسانية والحضارية بما يحيط بها، وفي صلاتها مع العالم الخارجي.
فمصر كانت أحد مراكز الحضارة والقوة في العالم القديم، واستمرت كذلك في العصر الوسيط، وفي عالمنا المعاصر، وكما كانت الثوابت التاريخية، توجه مصر في عهد الفراعنة ثم البطالسة والخلفاء، كذلك بقيت في عهد محمد علي وعبد الناصر. فما من حدث هم في الشرق الأدنى إلا كان لمصر فيه موقف وأثر، وعليها تأثيره الحسم.
إن جميع الصراعات التي تشبت بين أقطار الشرق الأدنى، في نطاق القوميات المختلفة، قبل امتداد الإسلام، واحتوائه المنطقة بكاملها، أو بعد انصهار أقطار هذه المنطقة في الحضارة العربية، جميع هذه الصراعات كانت، وما تزال تنبثق من الثوابت الجغرافية والتاريخية ذاتها – لم يخفق من حدتها وحدة الإيمان والثقافة والأماني – إذ كانت الدفع المصلحي للصراع أيام بابل وآشور والفارس واليونان والرومان، ثم أصبحت الدافع السياسي، أللا شعوري، أيام الخلافة الإسلامية. وهي اليوم العامل الرئيسي في جميع الخلافات القائمة في المنطقة العربية.
تسلسل الأحداث في ظواهر:
إن الصورة التاريخية التي يرسمها جواد بولس عن مصر القديمة والحديثة والمعاصرة تعطي في بتبسيطها العلمي للأحداث شواهد قريبة منا “على الطابع الاستمراري في تسلسل الأحداث في ظواهر رتيبة من طبيعة التاريخ المصري العريق في القدم”.


شهادة ادوار حنين

الغائب الذي لا يغيب:
خزانات معارف على قدمين..
وإلى حيث الواجب.

للمجد.. كواحد من أهل بيته:
جواد بولس..
أمس، أغمض عينيه، عن الحياة التي أعتطه عن ياد كريمة، فقابل عطاءها باكتفاء.
هذه الحياة التي زق حلوها ومرها، فيما كان منصرفاً، منذ أول عهده بها، بالرأى والكتابة حتى صارت معارفه بحراً، ومؤلفاته الصلب مكتبة.
ولد جواد بولس مع القرن العشرين ورافقه حتى كاد يوقرب انتهاءه.
مديد القامة. مرفوع الرأس، وضاء الجبين، وقوراً.
الإنتصارات السياسية لم تخرج جواد بولس عن هدوءه، أو تدخل التباهي إلى نفسه؛
ولا الانتكاسات نالت من هيبته، ورصانته، وعزته.
الذين عرفوا جواد بولس، عن قرب عرفوا كيف أن هذا الرجل، أيام كان وزيراً ونائباً ونقيباً للمحامين، زال على النمط الرائق الذي اختاره لفسح في الحياة.
والذين عرفوه، يوم توج علماء كيف قدر هذا الرجل النادر أن يستقل اى؛الماجد، ون يعايشه كما لو كان وحيداً من أهل بيته.
ما رأيته يفاخر ويعتز إلا بواحدة: وهي كونه من زغرتا، وكونه حفيد أسعد بولس قائد قوات يوسف بيك كرم ورفيق أحلامه.
جواد بولس..
الذي جعل عثرت دراساته وتحقيقاته وتفكيره:
“في موسوعة عن “شعوب الشرق الأدنى وحضاراته”. وهي من خمسة أجزاء، كتبت بالفرنسية؛
“في كتابه “لبنان والبلدان المجاورة” الذي كتب بالعربية”
“وفي الكتاب الذي وضع بالعربية، وعلان صدوره قبل وفاته بشهر في موضوع “التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الأدنى، منذ الإسلام”.
عرفت له.
عرفت له، أيضاً، أبحاث، ومحاضرات، ومقالات بالمئات في مواضيع تاريخية، وسياسية، ومجتمعية، وفكرية فلسفية كانت تنشر في أرقى المجالات والجرائد، هنا وفي العالم، فتستقبل بالإكرام، في المحافل الدولية، وتتناولها التعليقات العميقة إطراًء وموافقة، وانتقاداً رصيناً.
جواد بولس..
كان خزانة معارف تمشي على قدمين، يتنقل على حيث كان يستدعيه الواجب أن يكون. فينشر معارفه في الجامعات والأندية الأوروبية،والأميركية، واللبنانية، يذهل ولا يفاخر، أو يبدي اعتزازاً.
إبن القمم.. ويلين:
جواد بولس..
كان رجل رأي،
وكان رجل مواقف،
لا يغيب ألحق رأيه،
ولا تغيب عن مواقفه الشجاعة، والصدق، والثبات.
وعلى أنه كان إبن القمم الشامخة – العالية، وجاز الطباع الفجة – القاسية، وربيب العادات المربعة – الصلبة،
ظل على طبعه اللين، ودماثة خلقه حليماً – رؤوفاً – محباً.
وكان كلما رأى التاريخ يقسو بحكمه على إنسان، أو شعب، أو حدث يعمل – طبيعياً، علتلطف ذاك الحكم، تلطفاً ملتصقاً بإنسانية جواد بولس، وبنزاهة رأيه.
ولو شاء جواد بولس أن يطرح رأيه وموافقه وعلمه في أسواق المساومة والإتجار، لكان وصل إلى أرفع المقامات.
غير أنه كان في وجه جميع الإغراءات التي كانت تعرض في طريقه.
ذاك الصوت، الهيب – الهادي.
تلك الكلمة الرصينة – المدروسة – المنعمة، ذاك النفس الطويل – المتمادي – العميق،
وتلك الرهبة في استيعاب العلم، وفي أدائه ونقله،
ذاك الصوتم وتلك الكلمة، وذياك النفس، وتينك الرهبة. كلها.. لم تفارقه في مقام، ولا مفارقته في حديث أياً كان الحديث والمستمع إليه.
فالفكرة، عند جواد بولس، حرمة. كما الحرمة التي في نفسه للمقدسات.
في الراهب الذي كان.. ولقاء:
أنا لا أنسى.
ما كان يتكرم به على صحبي وعلي، في حلقاته الخاصة والعامة، من آيات نيرات في التاريخ، في السياسة، وفي الفلسفة.
وأنه سيظل مائلاً أمام عيونهم وعيني. على كرسيه، في دير عوكر، أيام كنا نجتمع، في الجبهة، للسياسة، وللتأليف في ال”فصول”، وكلما كانت تستدعي الحوادث – والأحداث لقاءنا.
جواد بولس..
الذي ترهب لعلمه
ترهب لكتابه.
والذي عمل ليظل علمه، وليظل كتابة وقور الترهب معه، وفي الصوامع التي كان يخطر لنفسه، في الشمال في العاصمة، وفي العالم؛
سيجعله الله، سبحانه، في صوامع النور من سمائه، ليدخل أبعد فأبعد، على قدر ما تستطيع أن تعطي السماء فينعم، بديار الخلد، أكثر فأكثر، في النعيم الذي لقي ظله على الأرض.
جواد بولس..
أكرم الله وفادتك،
وكافأك بمقدار فضلك.
نام قرير العين في جوار ربك إلى أن نلتقيك!!


شهادة الدكتور نقولا زيادة

“تاريخ لبنان”.. جواد بولس:
للبنان التفرد الإقليمي..
داخل أمةٍ جغرافيةٍ إجتماعيةٍ واحدة.

المؤرخ، هويةً لا احتراف:
كان جواد بولس محامياً لامعاً، وكان رجل سياسة من الطراز الأول. لكن جود بولس المؤرخ كان هاوياً ولم يكن محترفاً. وقد وصف منهجيته التاريخية الدكتور عبد المجيد النعنعي بقوله” “نأى جواد بولس دوماً عن العودة في كتاباته إلى المصادر التاريخية الكبرى من عربية وأجنبية؛ وتجاهل بالكامل نتائج الإكتشافات الأثرية، على ما لهذه في علمنا المعاصر من أهمية كبرى في تجديد المعارف الإنسانية وإثراها بثوابت مادية. ويداً نهج جواد بولس في ما صنف أسلوب البعد الكامل عن المخطوطات والوثائق على ما يعطيه علم التاريخ لهذه أهمية كبرى في عصرنا. بل أكثر من ذلك وجدناه، وهو يكتب تاريخ لبنان وينظر لأحداثه ونقاط التحولات الكبرى في تاريخه، يتجاهل حتى تلك الأصول الضرورية لتاريخ لبنان الحديث والمعاصر والتي طالما كانت محل رعاية ودراسة واهتمام زملاء واصدقاء جواد بولس من مؤرخي ومنظري التاريخ اللبناني من أمثال فوأد أفرام البستاني وأسد رستم ويوسف السودا… اعتمد جواد بولس في أكثر الحالات مراجع عامة أو متخصصة ومصنفات حديثة عادية القمة والمعلومات.
“ولأن جواد بولس كان أولاً رجل سياسة، ومنها عبر إلى العلم التاريخي ليس لخدمة التاريخ، كما يتضح من مسار كل ما كتب وصنف، وإنما لجعل التاريخ في خدمة السياسة باعتبار هذه إبنة للتاريخ”.
ومع ذلك فإن هذا المؤرخ الهاوي ترك إرثاً تاريخياً ضخماً يتمثل في:
– “شعوب وحضرت الشرق الأدنى” (من البدايات حتى أيامنا) الصادر من خمسة أجزاء.
– “لبنان والبلدان المجاورة”.
– “التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الأدنى منذ الإسلام”.
– “تاريخ لبنان”.
هذا فضلاً عن محاضرات وابحاث ومقالات كثيرة ومتنوعة في الصحف والمجلات.
وقد وضع جواد بلبس كتبه بلغة الفرنسية، ونقل بعضها إلى الغة العربية، لكن كتابة الضخم لم ينال هذه الخطوة لدى المترجمين.
لبنان – مرتكز قواعد سبع:
كان جواد بولس في كتبه التاريخية ينظر إلى لبنان على أنه المعني أصلاً بما وداع. وقد انطلق في بحثه في هذا الموضوع من مسلمات اعتبرها قواعد أساسية في دارسه وتفسيره لتاريخ لبنان، لذلك فإننا، عند عرضنا لم اعتبره وقواعد أساسية، سنركز في هذا الحديث على كتابه “تاريخ لبنان” في الدرجة الأولى.
أما القواعد التي انطلق منها فيمكن أن توجز في الأمور التالية:
١- إن الأسباب العامة التي تؤثر على تطور المجتمعات الإنسانية تتلخص بما يلي: البيئة الطبيعية، الطبائع الأتنية هي نوعاً ما من صنع البيئة الطبيعية، ومقتضيات الصراع من أجل الوجود مسيرة بالطبائع الاتنية، مان ما ينتج عن ذلك هو أن البيئة الطبيعية الناشئة من عوامل المناخ وطبيعة التربة والموقع الجغرافي معاّ، عامل جوهري في التاريخ لأن “التاريخ الإنساني يغوص بجذورها كلها… في الواقع المدي للأرض. وعلى خريطة العالم نجد بقعاً إنسانية حية تلتسوق لزمن طويل في بالأماكن نفسها”.
فالمناخ والتربة والغذاء تمارس كلها تأثيراً فيزيائياً مباشراً.. فالبيئة تؤثر تاريخياً.. وهي محرك تاريخي قوي.
٢- “تحت تأثير البيئة الطبيعية والتقفية العقلية ومقتضيات الصراع من أجل الوجود، يتميز كل من المجتمعات الكبيرة أو الأجناس البشرية من غيره بعدد من الطبائع التي تنقلها الوراثة بشكل ملحوظ إلى أفراد المجموعة الواحدة كفى، الذين يؤلفون النموذج الخاص بذلك الجنس. وبعد هذه الخصائص طبيعي كلون البشرة أو شكل الجمجمة، لكن الأغلب والأهم فيها نفسي لو علاقة بالذكاء وبالطبع.
٣- وتميز الخصائص النفسية – وهي عناصر فطرية أو غريزية وراثية وثابتة نسبياً – وقد صاغتها واثبتتها شروط البيئة الطبيعية، تميز الشعوب وحدها من الأخر وتشكل “المحركات” الرئسية في نشاطاتها.
٤- ويختلف الأمر بالنسبة للطبائع والعادات المكتسبة (العادات والطرق الإجتماعية وطرق المعيشة واللغة والدين والشرائع إلخ) فهي بحكم خضوعها للتربية والواقع الإجتماعي تكون عناصر خارجية، لا تنقل بالوراثة، وهي قبل لأن تتغير.
٥- إن التاريخ خزان كبير للتجارب المتراكمة… ووحدها المعرفة التاريخية هي التي تقودنا لنكتشف في الأحداث الحالية… سر تركيبها وتجاوبها معاً، باستخلاص العلاقات أو الأسباب التي تعينها. “إن تطبيقنا لثوابت التاريخ ومقاييسه على المشاكل السياسية بجعلنا نكتشف، بفضل المعطيات الحقيقية الرابط واللحمة والحل”.
٦- وهكذا، فالقوانين التي يضعها البشر والاجراءت السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي يتخذونها يجب – كي تنجح وتدوم – أن تتلاءم مع البيئة وأن تراعي الميول الطبيعية للمجتمع علي تطبق فيه.
٧- على ضوء المعطيات العلمية.. نستطيع القول إن لبنان، هو كسائر المجتمعات القومية، وليد الجغرافيا والتاريخ. فهو يؤلف “أمة جغرافية” أو بتعبير آخر شخصية جغرافية تعيش في داخلها، منذ أزمان بعيدة، مجموعة إنسانية (شعب. أمة)، تكيفت طبائعها الخاصة الأساسية، أو القومية التبعيم وبخاصة النفسية، وتحددت بثبات تقريباً، وفق الشروط الطبيعية الإقليمية والوراثية.وإن مسائل الجنس واللغة والدين، التي توجد بين أفراد المجتمع البدائي هي… بالنبى للمجتمعات المتحدرة التطور عناصر ثانوية، كثيراً ما تتغير على مار العصور دون أن تغير في الطبائع الأساسية والقومية”.
ومن هذا كله يصل جواد بولس إلى القول: “فلبنان إذا هو بلد مؤلف من مجتمع بشري، هو خليط عرقي اتني مستقر، في أرض معينة، يسكنها هذا الخليط ذو الخصائص المتميزة والدائمة نسبياً… وهكذا فتاريخ لبنان هو شخصية جغرافية جماعية حافظ دوماً، تحت أسماء مختلفة (نيغا، كنعان، زاهي، فينيقيا، لبنان علخ) على طبائعه الأسية المويزة منذ أقدم العصور حتى أيامنا هذه.
جغرافية التفرد اللبناني:
ولكن ما هو هذا العامل الجغرفي الذي يغزو اييه جواد بولس هذا التفرد اللبناني؟
يحدثنا المؤرخ عن منطقة مستطيلة تشمل سورية ولبنان وفلسطين التي تبدو أنها تكون وحدة جغرافية، ولكن “في وسط المستطيل سور مزدوج من الجبال: جبال لبنان والسلسلة الشرقية التي تفصل ما بين البلد اللبناني وسوريا الداخلية (دمشق ومنطقتها). وهكذا تولد وسطان طبيعيان متميزان: الواحد إلى الغرب والثاني إلى الشرق وهما يختلفان في المناخ والتكوين. ففي حين أن لبنان المفتوح على البحر المتوسط، والمنعزل عن الصحراء، سهلاً قريان مرتفعاً، يغلي عليها المناخ الصحراوي. ويصعب النفاذ إلى الداخل من الساحل لتوازي الشاطئ مع سلسلتي الجبال، إلى في معايير قليلة هي من صنع الطبيعية، وفي الطرفين الشمالي والجنوبي من لبنان.
“وتختلف الجهتان الشمالية والجنوبية من المستقبل الهندسي أي سوريا الشمالية وفلسطين عن لبنان، رغم انفتاحهما حرباً على البحر المتوسط من الواجهة الطبيعية. فهما على عكس لبنان المعزول من صحارى الشرق بجبال عالية، منفتحةً، نوعاً ما، من الشرق على الصحراء السورية التي تمتد حتى ما بين النهرين والجزيرة العربية”.
ويعود جواد بولس إلى تفصيل بيئة لبنان الطبيعية التي يعتبرها الأساس في تميزه وسكانه، فيقول: “ومن الناحية الجغرافية فلبنان بلد متميز بخصائصه لأنه يقع بين سوريا الشمالية شاملاً، وفلسطين جنوباً، وحوض دمشق شرقاً، والبحر المتوسط غرباً. وهو يؤلف مستطيلاً من الأراضي يمتد من الشمال إلى الجنوب، ويروح طول هذا المستطيل ٢١٠ كيلومترات وعرضة بين ٢٥ و٥٠ كيلومتراً من الجنوب والشمال.وإن مساحة اراضيه المقدرة ﺒ١٠٥٠٠ كلم٢ تقارب مساحة فينيقيا القديمة.
“يعتبر جبل لبنان عامود البلد أفكاري وحصنه، ويمتد طولاً ١٧٠ كيلومتراً، ويروح علو قممه عن سطح البحر بين ألف وثلاثة آلاف متر. ويعتبر جبل لبنان أعمال جبل في الشرق المتوسطي وهو يحتل أكبر مساحة من أرض لبنان. “إنه حاجز وهذا الحاجز لا ينفتح باتجاه بلاد ما بين النهرين والخليج القاري إلا بممرين معترضين هما فرجة حمص من جهة، والطرق التي تؤدي من عكاء وحيفا إلى دمشق والصحراء من جهة أخرى”.
“وباختصار فلبنان جبل عالٍ منفتح على المتوسط يقع عند نقطة التقاء الطرق القارية الكبرى في العالم.
ويرى جواد بولس أن أسلهعب التي قطنت لبنان أصلاً أو التي لجأت إليه كانت تندمج مع هذه البيئة الطبيعية فتعتبر هي أكثر مما تغير في جوهر الأمة الجغرافيا اللبنية. ويشير إلى أنه منذ الفتوح العربية وقيام الخلافة الأموية والعباسية، ثم الدول التي استفرخت عن هذه وتبعتها وحتى مجئ العثمانيين وفتحتها المنطقة، كان المهم بالنسبة إلى القائمين على الأمر هو ضبط الموانئ (أو هدمها كما فعل المماليك)، ولذلك زال السكان الجبلين، بمن ينضم إليهم من الهاربين من الظلم – من أيام البيزنطيين إلى ما بعد ذلك من التاريخ الطويل، على شيء كثير من الحرية في الجبل، نحيث أنهم كانوا يكونون أمة جغرافية اجتماعية واحدة، وإن اختلفت ديناً أو لغة.
“ولما ازداد تدهور المدن الساحلية، ابتداء من القرن السادس عشر وذلك على أثر اكتشاف رئس الرجاء الصالح (١٤٩٨) [اضطرت] الإسكندرية والمرافئ السورية اللبنانية إلى التخلي عن تجارة الشرق الأقصى”. وذا اضفنا إلى ذلك جور الباشوات الأتراك أدركنا السبب الأساسي للإزدهار النسبي للتطور اللبناني في الحقول الإقتصادية والثقافية والقومية والسياسية في الجبل، إذ انصرف أهله إلى تنمية الزراعة والعناية بالأرض والدفاع عن أنفسهم تحت قيادة محلية.
معالم الأمة اللبنانية الحديثة:
وهنا يبرز في رأي جواد بولس الأمير فخر الدين المعني (١٥٨٥ – ١٦٣٥) الذي يعتبر امارته إعادة لبناء فينيقيا القديمة، فالرجل لحق تحقيق مخطط هو أولاً: أن يجمع تحت سلطانه المطلق مجموعة المناطق اللبنانية، وأن يحرر امارته من كل ولاية أو حماية عثمانية. وثانياً أن ينضم إلى دولته مناطق فلسطين وسورية، أي أن يوحد سورية الجغرافية أو السوريتلكبرة. وقد نجاح في الأول ولكن لم ينجح إلا جزئياً في المشروع الثاني.
ويعتبر جواد بولس دولة فخر الدين السلف القريب للبنان المعاصر.
يرى جواد بولس أن معالم الأمة اللبنانية الحديثة تعود، بعد الأمير فخر الدين المعني وأعماله، إلى القرن الثامن عشر حيث كانت هذه قد اتخذت الشكل الذي زالت عليه فيما بعد؛ فقد كانت تتألف من تكتل الموارنة في الشمال وكسروان، والدروز في الشوف والشيعة في الجنوب والبقاع. “ومجموعة التكتلات الطائفية التي كان يتألف منها سكن هذه الإمارة [إمارة فخر الدين] كانت تمثل المعالم الأولى للمجتمع الوطني أو للؤمالبننية الحاضرة، التي كان نموها قد بدأ منذ العصور المادية، و”منذ ذلك الحين أخذت جميع هذه الطوائف تتطور في جو من الثقة والتفاهم المتبادلين. ثم ازداد تعاونها وتضامنها ثباتاً وقوة في القرون التي تلت”. وكان الأمير بشير الشهابي (١٧٨٨ – ١٨٤٠) ثاني من أعاد إلى لبنان حدوده الطبيعية والتاريخية.
ويعتبر المؤلف أن إنشاء المتصرفية في لبنان سنة ١٨٦١ وهو بدء عهد استقلال لبنان. وقد عدل النظام الذي وضع سنة ١٨٦١ في سنة ١٨٦٤ الذي يقول عنه جواد بولس: “بالرغم من النقص الذي اتصف به النظام الأساسي لسنة ١٨٦٤ م، كان يرسم مخطط الإستقلال اللبناني ويحفظ لمختلف الطوائف اللبنانية حقوقها وحريتها ومعتقداتها الخاصة، ويسمح لها، كما في العهود السابقة العادية، بالتعايش السلمي وبالتعاون على النضال في سبيل البقاء، وبالتشارك، عند اللزوم، لحماية البلاد التي تعتبر وطناً مشتركاً”.
في سنة ١٩٢٠ أعلن لبنان الكبير (أصبح الجمهورية اللبنانية سنة ١٩٢٦)، ويقبل هنا جواد بولس رأي لامنس في هذا الحدث إذ يقول الأخير: […وهذا الإعلان] “أعاد بصيغة رسمية بناء العالم الذي باشر به بنو يحتر [أمراء الغرب] وتابعه فخر الدين والأمراء اللبنانيون”.
وينتهي جواد بولس في كتابه “تاريخ لبنان” إلى تلخيص ما توصل إليه من نتائج. وقد يكون من المفيد الإشارة إليها هنا.
١- لبنان وليد الجغرافيا والتاريخ، وهو بلد لو تفرده الإقليمي وكيانه الجماعي والتاريخي، وذلك بسبب الأوضاع الطبيعية والإقتصادية التي تتحكم في تطوره.
٢- منذ فجر التاريخ تميز لبنان بثكنة (من كنعانيين وفينيقيين ومن هم قبل اللبنانيين واللبنانيين) بفردية جماعية قوية.
٣- كون لبنان بلداً لو ميدانان أو وجهتان تجعلن منه في وقت واحد بلداً بحرياً شرقياً ومتوسطياً، فقد نشأ عن هذا الإتجاه المزدوج توازن خاص فريد من نوعه تقريباً، كان في كل حين، يترك أثراً في الشعوب اللبنانية ويكيف تطورها المتتابع عبر الأجيال.
خرجة:
تراث جواد بولس التاريخي ضخم، وما كان من المتمكن التعرض لو في هذه العجالة. فضلاً عن ذلك فقد كان لبنان همه الأول في دراساته التاريخية، فاقتصرنا، كما أشرنا في مطلع هذا الحديث، على كتاب “تاريخ لبنان”.
حري بالقول إن بعض “نظريات” جواد بولس يمكن اختراقه، لكننا لم نقصد هنا مناقشة الرجل آراءه وما قصدنا إلا توضيح هذه الآراء، ولعلنا قد فعلنا.
٣١/٧/١٩٩٧


شهادة الدكتور علي شلق

“تاريخ شعوب الشرق الأدنى وحضرته”.. في الميزان:
ولا يضيره أنه بكغا غير لغة قومه..
فنحن نسكن بيتاً واحداً هو العالم.

للتاريخ الذي هو اسم جنس، والتاريخ الذي هو مصدر يفيد تكرار الحوادث والأحداث وإثباتها، أو تسجيلها، ثلاثة أنماط:
– السرد كما عرفناه لأبي التاريخ هيرودوت، ومن صار على غراره كتيودر، وسترابون، وتشليڤ.
– والسرد مع ملاحظة الفوارق بين كتاب التاريخ، وأسطع هؤلاء الطبري، وابن الأثير، والمالقي، والخضرمي،
– ثم الحب من الزايط إلى الكليات، ورسم قواعد ارسلت للمرة الأولى علم التاريخ، أو فلسفته، والإتيان على أسباب نشوء الأمم، وعوامل انهيارها كابن خلدون ولذي مشى على طريقة مكياڤللي ومونتسكيو.
والغريب أن المالقي والخضرمي معاصراً لابن خلدون لكنهما كان أشبه بالسرديين ومثلهما الماوردي مع فارق.
أما سطوع اسمي: ول ديورانت، وارنولد توينبي، فهو من نسق السطوع الإبن خلدوني المعلم.
هنا.. أين يقع إسم جواد بولس اللبناني الزغرتاوي المنداح إنسانية؟
“تاريخ شوعوب الشرق الأدنى وحضاراته”:
جواباً عن ذلك نرسم أن جواد بولس في موسوعته المخمسة عن حضارة شعوب الشرق الأدنى كان تقسيمياً كالمؤرخين العرب بمراعاة الزمن وجريه، وكان سردياً مثل ات مؤرخ، وابن خلدوني في الإلتفات الذكي إلى أسباب النشوء، والسطوع، والزوال. وبهذا يبقى جواد بولس واحداً من لامعي التاريخ. غير أن هذا يعد ظلماً للصديق الراحل الذي كانت لنا معه جولات في منزله، وعلى تراس “السان جورج” في الستينيات، ولذا أعلن أن جواد بولس سيد من أسياد التاريخ المقارن. فهو مولع بالمقارنة بين الأمم ذات الفعالية في مجرى حضارة البشر، ناشراً ثقافته، وعمق اكتشافه، دقة ملاحظته، ولا يؤخذ عليه، إلى الإيجاز الذي لم يجئ مورياً مشبعاً في بعض المواقف!
ثمة ميزة لمواقف جواد بولس، تأخذ القارئ باحتدام إلى مناخ المؤلف النفسي، وذلك ساعة تسحره ألمآني العظيمة، فيحتدم وتفوح من مشاعره نسمات عطرة تنشر البوح الإنساني الذي عرفنا جانباً منه لدى يوسف ابراهيم يزبك، مع فارق ملحوظ بين موسوعية جواد بولس وأبعاد فلسفته الإجتماعية التاريخية، والحدود التي اختارها لنفسه الإستاذ يزبك، رحم الله الاثنين، ومجدهم!.
هنا يطيب لأن استعرض المجلدات الخمسة، وموضوعاتها، وتسجيل المواقف منها، بمثل تجرد جواد بولس، وتعادليته المشرفة في معظم ما كتب كأنه عالم رياضي على نكهة أدبية.
• المجلد الأول:
يفاجأ القارئ، غب إلقائه نظره على الغلاف، بعبارة “تقديم طه حسين، والجنرال ديغول، ورملد توينبي”. والرجال الثلاثة باشروا السطوع في مجرى حضارات القرن العشرين في مجالات الأدم العالمي، والعسكريات، والتاريخ، بالإضافة إلى أنهم من جنسيات مختلفة توحد الرؤية لجهود الإستاذ جواد بولس، وتزكيه.
يهمني هنا أن أشير إلى المتوسطية التي عاناها طه حسين، ولا أنكر أن الإستاذ جواد بولس لا يخالف هذا الخاتم وحسبي بهذا الصدد أن استعد بعض قواعد المنطق الذي درسناه في الأزهر، وبعض مقررات علم الكلام بما عبارته: “الأصل بقاء ما كان على ما كان”، و”حدائق الأشياء ثابتة”، و”ما بالذات لا يتخلف”. لهذا أفيد أن حضارات الشرق الأدنى، والأوسط، بعدها جاء متوسطياً، وبعدها جاء طرياً. وأقدم دور باهر في حضارات الأمم الشرقية القديمة كان للتموريين والكنعانيين والفينيقيين والعيلاميين واليابانيين من جهة، والمضريين من جهة أخرى، والحثيين وسواهم.
هؤلاء جميعاً رسموا بخطاهم العقلية حضارة تختلف اختلافاً بيناً عن حضارة الغرب المتوسطي اليوناني والروماني، وقد ظهر ذلك في الفنون المعمارية والأدب، والدين.
المعمارية الأدنونية لشعب الصحراء تميزت بالتربيع، وعنهم أخذ اليونان، وبطراز الأعمدة التي قبست تيجانها من نباتات ارضها، وزر كشاتها من اشجارها الخاصة؛ أما الدين، فهو التوحيد بعض وثنيات زالت، حيث لمع تأليه المغيب في موقف ابراهيم وأخناتون، وموسى،وعيسى، ومحمد؛ وعندما قبس الجانب الغربي هذه الأديان أقلامها وغربها، وحاقه على طريقته الوثنية، فأية متوسطية جامعة موحدة، أو متناغمة في الدين بين الغرب والشرق؟ أللهم إلى ما سمي بالهلنستية التي تجاوزت المتوسط. وما شأن هذه الحضارة الغربية المتوسطية لليونان والرومان؟ انها نسخة عن حضارة الشرق، مأخوذة من جزر بحر “إيجه” حيث كان يقيم شرقيون من بابل، ومصر، وفارس، وفينيقيا قبسها “الاخائيون” عنهم. ولا فضل لهم إلى بالتنسيق، ولنستمع إلى “ول ديورانت” في مجلده الأول، الجزء الثاني، صفحة عشرة القائل: “لم يأتي اليونان بجديد، وكل ما قدموه إنما أخذوه عن الشرق، وقد آن الأوان لنرد الجميل إلى هذا الشرق”.
أما الرومان الذين هم أما ظل لليونان، فقد نسجوا وجودهم الحضاري على غرار “أشر” التي تميزت بالعسكرية والقانون، ومشت على خطى بابل.
صحيح أن الإنسان واحد، والكون واحد، وسبب الخلق واحد، إلى أن البحار والجبال والسهول ما كونت يوماً حضارة لشعوبها تنفرد بعبقرية التكوين، وما هذه المتوسطية سوى ومضات فينيقية، ومصرية وبابلية، تلقت واندغمت في جزر إيجه وكريت وتشابهت.
لكن محتوى الجزء الأول يتناول العهود القديمة لشعب هذه البقعة والتحولات المناخية، وما جرى في بابل، ومادي، وآسيا الصغرى، وأرمينيا، وإيران، وسوريا، ومصر، ملحاً على أمور البداوة، والزراعة، والسامية، والآرية، وامتداد الزحف البشري في الأصقاع، وما نشأ عن ذلك من شؤون الكتابة والعقل.
• المجلد الثاني:
تدرج فيه الإستاذ جواد بولس بقلم على الفراعنة، والحثيين، والمابينهريين، والأبجدية الفينيقية، ومملكة إسرائيل، وآشور، وإيران، وما ترتب من حضارة هلنستية بعد الإسكندر، مزيجاً من شرق وغرب.
• المجلد الثالث:
يتمادى فيه المؤلف بالكلام على مراحل زمنية تخص صيرورة مصر، وما بين النهرين، وأثر الأغارقة وسواهم.
• المجلد الرابع:
وهو أضخم مجلدات الكتاب، خاص به المؤلف حضارة العرب والاسلم، منذ التاريخ القديم لبلاد السامانيين والعرب، وكون الإسلام امتداداً لحضارة ما قبله، فهو بذلك يمس الحقيقة، ويخلف القائلين بولادة جديدة مغايرة للكعرب الإسلام، مسترسلاً حتى سقوط بني عثمان وامبراطوريتهم الواسعة.
• المجلد الخامس:
يتناول به المؤلف شؤون الأمبراطورية العثمانية وأوروبا والشرق، قيم الإنتفاضة العربية، وزحف العرب الإستعمارية، ونهضة مصطفى كمال، ونشوء القومية العربية، رداً على الطورانية.
خوضاً في الكتاب:
يخوض الإستاذ جواد غمار التخمينات التي تتعلق بتاريخ الشرق الأدنى قبل التقويم الميلادي، يركب شراع الغموض أحياناً، والإيجاز، والخلاف، ولذي يبدو لأن الكتاب ” “L’Orient et la Grèce وكتاب “Histoire Romaine” جاءا واضحين بجلاء في ما يتعلق بهذه الفترة أكثر من موسوعة جواد بولس، إضافة إلى تاريخ “مايرز” الذي أوجز ولم يخل.
• لكن كتاب جواد بولس التفت بدقة إلى الفرق بين الصحراء الإفريقية والصحراء السورية، حيث الموات في الرمل الأفريقي، والواحات والحياة في رمال الصحراء السورية وشبه الجزيرة وكون المماليك في فينيقيا، وفلسطين لم تستطع التوحد فيما بينها، وما الوحدة بين مملكة يهوذا ومملكة سليمان إلى عابرة ووقتية. وربما اتخذ طريقه بشكل تسلمي إلى افترضت المؤرخين حول الفوارق اقتضتها ظروف أن الدول القرية لم تستطع ظروف القرن التاسع عشر العرقية. ولا أدري كيف يقرر المؤلف أن الدول القرية لم تستطع على مر تاريخها أن تقيم فيما بينها وحدة، في حين أن “اليوناروميه” استطاعت بفضل البحر المتوسط أن تقيم “وحدة اقتصادية وسياسية وخلقية (كذا) ون تلك الإتصالات، متخطية الأعراف واللغات، والعادات، والمؤسسات المختلفة، نجحت في النهاية في فرض نمط حضارة وحدة (كذا) ظهرت وحدتها في الفكر الهلني..”.
أين تلك الوحدة؟ أفي الإختراق السريع بعد موت الإسكندر؟ أم في ثورة هنيبال؟ أو تقلص السيطرة من روما أم بزانتني؟ ثم إن مصر بلد متوسطي، فلماذا قبلت مصر الإسلام بسرعة ورفضت مسيحية بيزنطية؟ علماً بأن هنالك شبهاً بين التثليت المصري، والتذليت المسيحي!!! ثم أين التوحد في أثر الطابع البحري الذي فرضه المؤلف مع انكلترا، وفينيقيا وقرطاجة، وهو يعلم أن فينيقيا كانت مؤلفة من ممالك: صور، وصيدا، وجبيل، وعرقا، بالإضافة إلى رأس شمرا، وهي جميعاً كانت ساعرة العداوة فيما بينها، وكان ملك جبيل يستخذي لفرعون مصر، ويخاطبه “بعيدك وخادم قدميك” حسب تاريخ فيليب حتي. وهل إن تلك الوحدة تمت بين “أليسار” وأخيها، بين قرطاجة وصور، أو بين “هنيبال” والسناتور القرطاجي الذي خان البطل هنيبال ليتمكن منه سيبيون الإفريقي ويحطمه في معركة: “زاما”فيهرب طريداً ليموت في الغياهب؟
• وحول تسمية الفينيقيين بهذا الإسم، يورد الأستاذ جواد بولس مفترضاً أن اليونان سموهم بذلك لأنهم كانوا صناع الأرجوان من صدفة بحرية هي الموريكس التي تعطي الصباغ الأحمر “فواتيكس”. والحقيقة، كما يقول صاحب كتاب “L’Orient et la Grèce” أن التسمية مأخوذة من لفظ Phinicus أي النخلة إشارة إلى أنهم جاؤوا من بلاد النخيل أي مناطق الخليج اليوم على البحر الأحمر (وهذا ما يورده المؤلف ص:٢٦٤). ولست أدري كيف تم التناقض بصدد نسبة كنعان بين عبارتي الكتاب: “إن كنعان بن حام…” وقوله: “… إن الكنعانيين هم ساميون من حيث لغتهم فهم هم من أصل المجموعات السامية الأخرى؟
وهنالك فجوات خرفيات تجعل من العرب من العرب الشماليين منسولين من إسماعيل بن ابراهيم تمكيناً للقرابة بين فرعين من الساميين: الخابيرو والأخلامو، أو بين الإسرائليين والعرب، والصحيح أن نسل ابراهيم قليل العدد بالنسبة إلى قبائل الشمال الذين منهم العدنانيون وهم عرب خالصون، وليس من المعقول أن تجنس قبيلة “جرهم” العربية إسرائيلياً وهي التي حضنت إسماعيل وغير “جرهم” قبائل أخرى شمالية!!!
ثم أين الشاهد على أن ابراهيم الذي قدم من أور الكلدانيين إلى موقع مكة في الحجاز هو عبراني وليس حمورابياً، والحمورابية ذات نسبة معروفة؟ وهل إن تناقض التوراة يصح أن يقع فيه الإستاذ جواد بولس؟
وعندما يجمع المؤرخون على أن الشاسو، أو الملوك الرعاة المسمون بالهيكسوس، هم أمراء عرب وفدوا من قلب الجزيرة العربية، وحكموا مصر، وعلموا المصريين فن الإدارة، وضبطوا مملكة الفراعنة، إشارة إلى أنهم سلالة حكومة منظمة من قبل،خضعوا لتقلبات التبعم فزحفوا إلى مصر، وبصددهم يقول الأستاذ جواد: “ومنهم من يقول أنهم كانوا عرباً” ويضع إسم المرجع في أسفل الصفحة نقلاً عن جوزيفوس. وهؤلاء الهكسوس من العمالقة العرب البادئة الذين طمرت حضارتهم الرمال، وقد امتازوا بالعمارة، وأعمدتها الباهرة!
• في المجلد الرابع المخصص لدراسة حضارة العرب في الإسلام، يأتي المؤلف على موضوع ولادة النثر الفني، حيث يجاري فيه ما شاع وبنى عليه المؤلفون في تاريخ الأدب العربي أفكارهم من أن العصر الأموي هو المناخ الذي ولد فيه النثر الفني، وهذا موضوع احتدم فيه الخلاف بين الدكتورين طه حسين وزكي مبارك. فطه حسين يرى أن النثر ولد على ياد سالم، مولى هشام بن عبد الملك، ونسيب عبد الحميد الكتاب، بينما يرى الدكتور زكي مبارك أن النثر ولد بالقرآن، فيرد طه حسين قائلاً: “القرآن ليس نثراً، وليس شعراً، بل هو قرآن” أي نمط متفرد من الكلام الأدبي.
في كتابنا “مراحل تطور النثر العربي ونماذجه، في الجزء الأول قررنا أن النثر الفني لمع برسائل النبي، وخطب الصحابة، خاصة عمر وعلياً ثم زياداً والحجاج. أما الذي سطع على قلمي سالم وعبد الحميد فهو النثر الديواني، وفن الترسل الذي يقع بين القصة والشعر، ومنه الأخويات.
• وتحت عنوان: “مآتي عرب الجزيرة” يقول الإستاذ جواد: “إن الواقع الذي يقول بأن الحضارة العربية الإسلامية وقد اقتبست كل شيء، تقريباً من مجتمعات الشرق القديم… بل على العكس من ذلك، فهذا المجتمع البدوي هو كما رأينا مؤلف من أفراد أذكياء وأقوياء ويتمتعون بأبدع صفات الطبع”.
لفظ الطبع هنا كف لإيضاح الإمكانية والموهبة، بيد أن هذا ليس كافياً، فالقرآن الكريم يشير إلى حضارة عظيمة قبل الإسلام بقوله: “ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد، لتي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد”. لنلحظ لفظة “العماد” ودلالتها على الأعمدة في العمران قصوراً، ومحافر، وبيوتاً، ولفظ “البلاد” أي المجاورة التي هي بابل، وفارس، ومصر، علماً بأن مصر شكلت أعظم حضارات التاريخ القديم وتميزت بأعمدة زهرة اللوتس، ومثلها ثمود التي بقي من عماراتها قصر البنت في بطرا وسواه. القرآن والتوراة من جهة التاريخ مصدران هامان. يضاف إلى ذلك شهادة “ويندل فيلبس” الذي اكتشف عبادة القمر والكواكب لدى قدماء العرب، ورآها أجل من عبادة اليونان، وقد سبقه “روبرت شميت”القائل في تاريخه: “لو تمكنا من كشف ما تحت رمال الربع الخالي لظهرت لنا حضارة la تقل عن حضارة بابل وآشور”.
ثم إن شبه الجزيرة العربية أتت عليها تقلبات جيولوجية بدلت من معالمها، وأصبح عالي أرضها سافلها، وما البترول والفحم الحجري سوى إشارة إلى ذلك.
وتحت عنوان “نشأة الدين الإسلامي” يقول الأستاذ جواد: “إن الوسط البيزنطي الذي كان الموالي التعبير الصادق عنه، قد يكون أقله ولد، إلى درجة يصعب تحديدها بدقة – علم الدين الإسلامي. وهكذا يكون الموالي قد ابتكروا علم الدين، كما ابتكروا قطعاً اللغة”. ينقل الأستاذ جواد هذا الكلام عن الباحث “Gautier “والأستاذ جواد يعتمد في كتابه ذي المجلدات الخمسة، في معظم فصوله على المؤلفين الغربيين، ومنهم السيد غوتييه، هذا الذي جاء كلامه مجافياً للحقيقة، وخلافاً لم يراه علماء الإسلام، فعلم الكلام أو اللاهوت الإسلامي هو فلسفة الإسلام التي بها تفردوا، ونبعت من كتابهم وفقهه، وآراء الفرق المتعددة وليس للموالي أي نصيب في الإبتكار. واللغة رسم طرائقها الإمام علي،وتلميذه أبو الأسود الدولي، ولم يسطع نجم سيبويه الكسائي إلى بعد جهد الدؤلي بزمان، والموالي سكنوا لغة العرب، فأصبحوا من أهل البيت.
وبما أن الأستاذ جواداً ينقل عن الغربيين أو المستشرقين، فالمفترض يدفعنا إلى لفت النظر نحو شطط هؤلاء الذين كان همهم الأول طدمة دولهم، وإن كان صديقنا “روجيه جارودي” صنف هؤلاء المستشرقين إلى ثلاثة اصناف:
– الصنف الأول كان الإستشراق فيه مطية الإستعمار مثل سلفستر ده ساسي، وجاك مللر؛
– الصنف الثاني أحب الحضارة الشرقية ولم يتخل عن خدمة بلاده ومآربها مثل لويس ماسينيون، استاذنا العظيم وصاحب: “Opéra Minora” ؛
– والصنف الثالث أحب الحضارة العربية والبحث في شؤونها، وكان الإستعمار قد لملم أطرافه ورحل، وهؤلاء منهم “روجيه جارودي” بالذات كما قال لفي لقاء حميم في طرابلس الغرب. وهذا الكلام محمول على تلطيف عصبية المستشرقين الذين كشفوا جوانب من تراثنا، وإن كان الإسراف في الإعجاب يعد سرابياً.
وفوق اعتماد المؤلف على المستشرقين فهو يقرر المبدأ التالي بقوله: “إن معظم الشخصيات البارزة في الحضارة العربية الإسلامية هم من أصل فرسي أو سوري، على أن نضيف اليهم بعض اليهود والمسيحيين.
الأستاذ جواد la يجهل أن مفكرين سورين لمعوا في الفكر اليوناني، سياسيين أباطرة سطعوا في التاريخ الروماني، والدارسون يعدونهم يونانيين أو رومانيين، مثل ذلك عندما اختلف المفكرون حول قومية إبن سينا. ولن ذلك بمناسبة ذكراه الألفية، وظهور كتاب مدموازيل جواشون عنه، فمنهم من نماه عربية وآخرون فريسياً، وسواهم أفغانياً إلخ… لكن دكتور طه حسيم – آنذاك – حسم الخلاف بقوله: “قوميته في اللغة التي كتب بها”. وهؤلاء الموالي سواء أكانوا من أصول فارسية أم هندية، فهم سكنوا اللغة العربية، وبها عرفوا.
في واقع المنهجية أن حضارة العرب تعتمد عل رجالها من الاقحاح في حقول الأدم، والموسيقى والمعماريات، والبستنة، لكن هؤلاء اغفل الرسم والنحت لأسباب دينية مثل بعض الأمم.
• وبصدد الشعر العربي الذي خلة من الملحمة، وصرف يعندل بشعر الغزل والمدح للذي يدفع أكثر…
نرانا ندفع هذا الموقف بتقرير مبداٍ هام حسب التالي:
١- لا يلام أدب أمة من الأمم في خلوه من أحد الأنواع الأدبية، بل يلام إذا قصر فيما هو من ابداعه، وتقاليده، وهنالك أمم عظيمة تركت أدبياً ولم تعط ملحمة. فهذه أمم أوروبا القديمة تركت لنا قصائد ذات نفس ملحمي كما ترك العرب، إذ ما الشعر الألماني عن سيغفريد، والفرنسي عن رولاند ومثله الإنكليزي؟ ومع ذلك la يعيبها النقاد الغربيون ولماذا la يعيبون الشعر اليوناني، أو الروماني أو الهندي لخلوه من المعلقات؟ فوق ذلك، فهم يعيبون شعر المدح في أنه يغالي بذكر المحاسن! إلى فليقل ليي مؤرخ للأدب في أي زمان وماكان، هل خلا شعر أمة من الأمم من المدح والهجاء لدى العرب ناب مناسب شاعر التراجيديا والكوميديا عند اليونان، وعلماً بأن ملحمتي قياساً وقالميكي الهنديتين تزدادان في الحجم على مالهومير وفيرجيل، ومع ذلك يأبى أدباء الغرب إلى إحاطة الألياذة والأوذسة ببالغ التمجيد!.
ومن المجحف المخل أخذ المؤلف بكلام “جودفروا ده مومبين” المستشرق الفرنسي الذي ادعى جهلاً بقوله: “فهؤلاء المترجمين هم جدد الإيرانيين، الذين تحت حكم العباسيين سيصنعون مجد الفكر العربي”.
غريب جد غريب أن يقتنع الأستاذ جواد بدعوة “جودفروا ده مومبين” ومن جرى في فلكه من المتعصبين، أو قليلي الإطلاع. فمجد الفكر العربي قائم في كتاب العرب والقرآن، وكلام الإمام علي، وخطب زياد والحجج، وفقه الفقهاء، وجدليات علم الكلام، وهذا من صنع العرب الصافين. وإذا قيل لي:وقليلة وضمنت؟ أجيب: “وماذا يضر إذا ترجم أثر عظيم شأن الآثار العظيمة واحتضنته العربية؟ هل هذا جديد على أدب العرب؟ كلا وألف كلا، فهذا شعر النابغة الذبياني عرض لنا بقصيدة من أروع القصائد أسطورة “ذات الصفا”، وهذا الحطبئة يروي قصيدة “طوي ثلاث”. ولعل المؤلف يقع في وهم بعد المستشرقين بعزمه أن “ألف ليلة وليلة” مترجم، أو أن سرت عنتر والزير سالم وأبي زيد الهلالي، وشجرة الدير، وحمزة البهلوان، والطهر بيبرس البندقداري كذلك.
“ألف ليلى وليلة” أشهر كتاب في القص العالمي وداعه مؤلف واحد، وتناول فيه استاذنا لويس ماسينيون الذي فق المستشرقين تعادلية في التنويه بالمعلقات والمقامات والأحاديث، والأدب الشعبي وشؤون العواصم العربية، وقبس عن اليونان والهند وسواهم، إلى أن المألوف الفاضل أهمل الكلام على علم الكلام، كما اغفل الكلام على عظمة الفن المعماري العربي قبل الإسلام وفخامته، مثله وهو يتكلم على الإمبراطورية العثمانية، علماً بأن القارئ كان يتطلع إلى إلقاء ضوء على فتح القسطنطينية إذ إن هذا يعد حدثاً باهراً في التاريخ، ولعله الأمثل في مدى الفتح العسكري!
• وعندما يحسن الأستاذ جواد الإنتقاء، يبلغ قمة الغوص البسيكولوجي بالنسبة إلى الأفراد أو الجماعات، أو الأشياء وهذا يشير إلى غنى الثقافة، وحدة الذكاء، ودقة الملاحظة، بالإضافة إلى مواقف رائعة من بعض شؤون الحضارة، ونبوغ الأفراد، وتأثير البيئة والمناخ: “وهناك فقط كان لتأثير الجواد تأثير على صفات الأعراق الجسدية. فالأعراق التي تدعى بحق تركية – غولية ما تزال تحتفظ حتى اليوم في معظمها بالسمة الظاهرة التي دمغتها بها عاداتها المستأصلة، قبضوا يعدون على جيادهم بلا توقف، وقد عاشوا على الجواد خلال آلاف السنين. إن قوة الجذع الأعلى من الجسم والقصر النسبي للأعضاء السفلى، وصغر أطرافهم، وحتى شكل فتحة جفونهم، هي كمقاومة التعب، وتقلبات الطقس من تلك الطبائع المكتسبة من حياة البداءة على الحصان.
أما بصدد نقد التيارات الحضارية الدينية فله موقف ملحوظ بنقله عن غوتييه Gautier)) “إن تلك الميزات محد الغربية هي تلك التي جعلت من المسيحية ديناً غربياً في بلده الأصلي الذي لم يعد يجد نفسه فيه، ويبدو من الصعب أن ننكر أن شعوراً من هذا النوع كان حتماً هاجساً في قرارة النفوس الشرقية وقد بالطبع إلى الإسلام”.
وقوله: “غير أن علينا الإعتراف بأنه لولا عرب الجزيرة الذين انشأوا الإمبراطورية… لم تمكنت ربما الحضارة العربية الشرقية أن ترى النور”.
• على أن الصواب يفوت المؤلف لدى مقارنته فيليب المقدوني وابنه الإسكندر بالتبني العربي محمد عليه السلام، إذ إن فتوحات المقدوني شهوية طموحي، وجهاد النبي رسالة إنسانية، والنبي مبدع خلاق، بينما المقدوني تسلم تركية غنية، وسائل عظيمة. وعلى الرغم من أنه تلميذ أرسطو، فإنه لم يترك لنا أثراً فكرياً، بينما تقوم عزمت النبي على ابداعه الأدبي والفكري، وفرادته التي تكلم عليها “سميث” وعده أحد التاريخ في العبقرية، وذلك في كتابه عن المائة عبقرية في تاريخ الإنسان…
تقويم أخير:
كلام كثير يقال عن كل تاريخ، إذ إنه كما هو جوهري مكتوب بقلم الغالب، فهو عرضة للتجافي عن الحقيقة. بيد أن الجانب المعني، من التاريخ هو ذلك العقلاني الذي يبحث عن العلل، ويسجل النتائج، ويرسم الكليات توصلاً إلى الفروع والجزئيات.
كلام كثير أو حول هذا السفر الجليل، فهو يستحق الدراسة للإستفادة والإطلاع والوقوف على الوضع. ولذي استرعى نظري فيه إلحاحه على تسامح العرب في مجلده الرابع وتعادليته في معظم مواقفه، وبناته عن هومير والمنشإ أقرب إلى الشرق منه إلى الغرب مما ينفي العصبية لكل ما هو غربي خاصة اليونان والرومان. وتركيزاً على أن حضارة البشر واحدة، ذات روافد كثيرة، فالكتاب عالمي ومفخرة لمكتبة لبنان والعصر. ولا يضير مؤلفاً أن يكتب بلغة غير لغات قومه، فنحن نسكن بيتاً وحيداً هو العالم كما يقول “أنتباتر” الفينيقي.
بقي أن نقول كلمة حول الترجمة التي بدت من جهودها جليلة ودقيقة إلى من بعض الهفوات، سبب معظمها الأخذ بزهر اللفظ الفرنسي الذي به ألف الكتاب دون الرجوع إلى الأصل العربي الذي لم ينطلق منه المؤلف.فمن ذلك ألفاظ:معاد – قسي – ابن الربي -الراي، وصوابها: معد – وقصي – وابن الربيع – والري؛ وصنوه تنوين الممنوع من الصرف يزيداً – عمران – والمخل رواية بيت الشيخ ابراهيم اليازجي المشهور على وجه غير صحيح من جهة الناس، ومن جهة النحو. فعبارة “حتى جاوز الركب” تقتضي نصب الركب، والأصل هو “حتى غاصت الركب”.
كتاب موسوعي، دار في فلك حضارات الإنسان، بعقل نافذ، وبصر شامل سيبقى المرجع، ومثير التذكار لمؤلف من عباقرة الصف الأول في لبنان. فشكراً للمؤلف والمترجمين، ومجداً لذرى لبنان الشمالي حيث يرقد جثمان ثلاثة كبار في بشري وإهدن: جبران، وجواد، وصليبا. ومجد لبنان أعطي لمثلهم.


شهادة سيمون عواد

التاريخ مع جواد بولس:
بالمنحة الحضاري اى؛لذي عرفه لبنان..
مهد لو، فدخل عصر العولمة.

أبرز ما يواجهنا اليوم، نتيجة لجهلنا التاريخ أو طعامنا عن حقائقه، أناً في فراغ سياسي، ليس فيه أي مضمون لوطن. “فالمعرفة السياسية هي وليدة الإختيار أو الذاكرة الشخصية في الإنسان”. وقياساً عليه، فإن التاريخ ذاكرة الإنسانية بأجمعها.
إن ججل الدولة الذي لم يقرأ التاريخ كالطبيب الذي لم يدخل عيادة أو مستشفى، أو هو كالمحامي الذي لم يتدرج في مكتب محاماة ولم يرافع في قضية. وعليه، ين الخبرة السياسية العريقة والثقافية التاريخية المفترضة عند من يبحث في شأن لبنان، ليتمكن من تحديد هويته ومستقبلة؟!
السيف ولبنان الموقع الجغرافي:
يقول نابليون، رجل الدولة بجدارة: “إن سياسة الدول في جغرافيتها”. وعليه، فسياستنا تنبع من جغرافيتنا التي لم تتزحزح منذ ستات آلاف سنة، برغم محاولات القوة للسيطرة على لبنان. فهى هي امبراطوريات القوة قد زالت: من الفراعنة، إلى الفرس، إلى اليونان، إلى مملكة تدمر، إلى بيزنطية، إلى مملكة داود وسليمان، إلى مملكة الأنباط في بترا، إلى قرطاجة.. إلى ممالك الخلفاء والفرنج والمماليك والأتراك، إلى أمبراطورية هتلر والأمبراطورية البريطانيا… هذه الأمبراطوريات والممالك زالت كلها وبقية لبنان الستة آلاف سنة صامداً.
رب سائل: لماذا؟ يجب بلسان نابليون: “ليس في العالم إلى قوتان: السيف والفكر”، ويستدرك: “…ومع الزمن، ينتصر الفكر على السيف”.
ولأن لبنان فكر منذ أن شع بالحرف، وبالأخذ والعطاء عبر المبادلات الحضارية وعطاءاتها كحل الموسوعة الزراعية العالمية التي خلفها في قرطاجة – فقد بقي قوس قزح الشعوب المحبة للسلام، في وجه مطامع القوة، وحتى عندما اضطر لجبهها على مشارف روما يفكر هنيبعل العسكري، انما اعتمدها وسيلة لغاية هي السلام..
الأجانب فهموا لبنان، ولم يفهمه بعض بنيه. يقول المؤرخ “بلانهول” الفرنسي: “إن جبل لبنان هو أعلى قمة في بلدان الشرق الأدنى، إذ يتجاوز ارتفاعه ثلاثة آلاف متر، كما أنه الأوفر نصبياً بالثروات المائية… وينعم، علاوة على ذلك، باتصال مباشر بالبحر المتوسط، إذ تشرف جباله الوعرة على خلجان الشاطئ ومرافئه…وهذا الطابع المزدوج الذي يجعل من لبنان، الجبل العالي، صنواً للإستقلال، ومن لبنان الجبل البحري، انفتاحاً على التأثيرات الخارجية، يفسر لنا سر لبنان كدعامة لبناء سياسي هو من أقوى البنى السياسية في الشرق الأدنم ومن أكثرها أصالةً”.
هذا الطابع الجغرافي الذي رسمه “بلانهول” هو الذي أضفى، على الشعوب الأصلية التي استوطنت لبنان، أو انضافت إليه بفعل الهجرات والغزوات، طبع الحرية اليتيم في الشرق، وطبع الإنفتاح والتفاعل – ثم إن “الموقع الجغرافي يدعو الجماعات البشرية إلى التحرك، أو على العكس يحدد لها مكان للتحرك، أو على العكس يحدد لها مكان التحرك… فالبيئة إذن محرك تاريخي قوي… وعامل جوهري في التاريخ.
إن الأرض والمناخ… يطبعان ملامح الوجه بطبائع تميز الأجناس البشرية والأقوام والشعوب… وميزة المنظر الطبيعي تصهر روح الشعوب. فهو الذي يصنع خصائصها القومية الثابتة… وهكذا، فالمناطق الحارة أو البادرة، والجبال والسهول والصحارى والأحراج… تولد نماذج بشرية مختلفة”.
“إن المناخ قد يعزز نشاط الإنسان، أو يضعفه أو يعيقه. فالبرد ينمي النشاط والإستعداد للعمل والميل إلى الإستقلال… والحار يساعد عل الكسل ويثير الأهواء العنيفة. إن الأرض تؤثر على غذاء الإنسان، وعلى التناسل، وعلى انتج الثروات وتوزيعها، ومن ثم على تكوين طبقات المجتمع، وعلى إنماء المؤسسات السياسية… والموقع الجغرافي لمنطقة ما يحدد إطار نشاط الشعب الذي يقيم فيها، كما يرسم توجهه واتجاهه”.
فاللبناني الذي انخرط في بوتقة الأرض اللبنانية لا بد أن يذوب في كيانها على غرار “الخميرة التي تذوب وتختفي في العجينة التي خمرتها”، والتعبير ل”رينان”.
اشكالية اللغة والدين.. لا مشكلة:
واللبناني الذي شاءت جغرافيته أن “يكون على مفترق طرق دولية كبيرة، منذ أقدم العصور، استعمل لغاتٍ أجنبية عديدة إلى جانب لغته الأم. فآثار مدرسة قديمة في جبيل – بيبلوس، تظهر أنه حوالى العام ٢٣٠٠ ق.م.، كان الطلاب يتعلمون اللغة الأكادية أو البابلية إلى جانب اللغة المحلية أو الفينيقية… دلائل أخرى تشهد أنه منذ تلك العصور القديمة كان جميع السكان يتكلمون أيضاً اللغة المصرية. وفيما بعد، عندما تبنى البلد اللغة الآرامية أو السريانية، اضيفت إليها اللغة اليونانية واللغة اللاتينية كلغتين مكملتين. واليوم، إلى جانب اللغة الوطنية، يتكلم اللبنانيون الفرنسية والإنكليزية وقليلاً من الأسبانية والإيطالية فضلاً عن اللغتين التركية والأرمنية”…
إذاً، لا مشكلة لغوية في لبنان إذا نظرنا إليها بهذا الواقع التاريخي المجرد، وهي على أي حال رأسمال لبناني كبير في التعاطي والتعامل مع سائر شعوب الأرض.
وكما أنه لا مشكلة لغوية كذلك لا مشكلة دينية، في المنظور التاريخي، برغم استغلال الدين تاريخياً في لبنان، وغالباً في الدول المتاخمة له، لأنه، على ما يقول المفكر الفرنسي “برودون”: “الدول الأكثر خصاماً هي الدول المتاخمة”.
وللتدليل على أن لا مشكلة دينية في لبنان تاريخياً، نرد ما سجلته نصوص رأس شمرا المكتوبة حوالى العام 1400 ق.م. ففيها “أنه منذ تلك العصور البعيدة كانت الشعوب الكنعانية والفينيقية تؤلف تجمعين دينيين كبيرين، بعيد احدهما “بعل” والآخر “آيل” إلهي البلد الكبيرين. وكان يشار إلى هذين التجمعين باسم “شعب بعل” و”شعب ايل”… وذا تذكرنا أن للآلهة الكبيرة القديمة وظائف دينية عدة، وأن كل تجمع كان يركز على وظيفة وأخرى، عندئذ تتكون لدينا فكرة عن تنوع المذاهب الدينية في هذا البلد الكنعاني القديمة”… فهل تغير شيء في هذه المعادلة التاريخية اليوم؟!
الأمة اللبنانية إرادة عيش مشترك:
إن معادلة الإرادة في العيش المشترك، وعلى الأساس التاريخي المشترك، تبقى خير دليل لتعرف الأمة اللبنانية الحديثة، لأنها التحديد الحديث للأمة.
وفضلاً عن هذه الإرادة المشتركة، يبقى “مبدأ روحي، يولد المشاعر العليا التي يأتي في رأسها التضامن الإجتماعي أو ألشعور الوطني… فإذا كان الوطن هو التجسيد الصوفي للأرض المغذية للأحياء الذي يقيمون عليها والأموات الذي سبقوهم، وقد حل بذلك محل الصوفية الإتنية، والدينية أو السلالة المالكة قديماً. هذا المفهوم العاطفي الحديث أقام (مقابل مذابح الله والملك)، المذبح العلماني الذي هو الوطن والذي سيسيطر أكثر فأكثر على الباقين” “وهكذا باتت الناس تموت من أجل وطنها كما كانت في الماضي تمت من أجل ملكها أو دينها”.
وذا كان من تيارات تنزع إلى الإلتحاق بهذه أو تلك من الدول والشعوب، فإنها بذلك تخالف سنة التاريخ والجغرافية، إذا تكون بعملها هذا قد نزعت عن المجتمع. اللبناني صفة الليبرالية المتحررة، وصفة التعددية الحضارية العالمية والمنفتحة النتيجة عن موقع لبنان البحري ونشطة الفكري والتجاري.
“إن هذا النشاط المميز الذي جعل من لبنان منذ أقدم العصور، بلد الترانزيت الدولي ومنطقة استقبال وضيافة،كون بورجوازية رأسمالية ليبرالية وديمقراطية قبل الحرب، وحقلاً مفتوحاً بحرية لأي مبادرة أصيلة أكانت أم غريبة، وملاذاً لكل الأشخاص الباحثين عن الحرية”.
فتابع لبنان الحر ثابت تاريخياً، “ففيما كان الشرق القديم كله يرزح تحت أحكام مطلقة من الطغيان الأرعن،وينقاد لملوك كانوا بمثابة أبناء الآلهة أو ممثليهم، كانت الحال مختلفة في فينيقيا – لبنان. كانت هناك مجالس تشارك الحاكم، وغالباً ما كانت تتخذ قرارات معاكسة لإرادته”.
ثم “إن قلفنقين هم السباقون إلى إطلاق فكرة الجمهورية الأولى التي حكمها حكم منتخبون هم القضاة”.
وبفضل هذا النظام الحر، لعبت المدن الفينيقية، على غرار المدن الهلنية، دوراً كبيراً في حياة العالم القديم وتطوره، بحيث دفعت أبناءها إلى ارتياد العالم وزرع الآفاق بالمعرفة والعمران. كما حصل في قرطاجة، وكما يحصل اليوم في أميركا وأروبا وأفريقيا وسائر بلدان العالم.
الجغرافية… وهذا هو التاريخ:
إن موقع لبنان، بجبلة التي تفصله عن الصحراء وتوجهه نحو البحر، قد حداد مسيرته عبر العصور، فضلاً عن أن تميز وجهه الطبيعي من وجوه جاراته،ميز تركيبته الروحي والإجتماعي من الشعوب المتاخمة له… حتى التي تعتبر الأقرب إليه، عنيت الشخصية السورية. “فإن اختلاف البيئة الجغرافية في البلدين (الجبل والبحر في لبنان والواحات والبادية في سوريا)، يجعل منهما، رغم التصاقهما جغرافياً، إقيلمين مختلفين جغرافياً وسياسياً، يكمل احدهما الآخر إقتصادياً”.
فلو كانت الجقبل اللبنانية غير محثذة للبحر، أي لو كانت هذه الجبال متجهة بخط عمودي من البحر إلى العمق السوري لكان بالإمكان تغيير مجرى التاريخ جرياً على مجرى الجغرافيا، أما والحال هذه، فإن ربك لم يشإ الناس أما واحدة… لحكمة يعرفها رسم الأكوان وحده.
كلمة أخيرة تختصر نظرة جواد بولس إلى التاريخ. فهو قد فاهم التاريخ منجزات حضرية للاؤنسن لا انتصاراتٍ عسكرية بلهاء. وكأنه أراد له أن يسيطر بالمنحة الحضاري الذي عرفة لبنان، وبهذه الصفة يكون قد مهد له عندنا ليدخل عصر العولمة.


شهادة الدكتور جوزف لبكي

لبنان.. جواد بولس:
رسالة انجذاب طبيعي، شرقاً وغرباً،
عمل أزمنة على خصوصيات.. وفرادة.

يعتبر جواد بولس أن للبنان، بفضل موقعه الجغرافي، ميدانين بل واجهتين تجعلان منه بلداً برياً وبحرياً، شرقية ومتوسطياً في آن. وقد نتج عن هذا الاتجاه المزدوج توازنٌ خاص، يكاد يكون فريداً من نوعه.
الرسالة… شرق وغرب:
فلبنان، البلد البري القري الملتحم جغرافياً بالشرق الآسيوي، مشدودٌ إلى هذا الشرق بروابط طبيعية لا يمكن أن تنفصم عرهم. وهو، من النحيي الجغرافية والإقتصادية والثقافية والتاريخية، قطعةٌ أساسيات من الخريطة السياسية والعسكرية للشرق العربي، جزء مكمل لهذا الشرق. والتاريخ برمته، قديمه وحديثة، يشهد على أن لبنان عنصر لا غنى عنه من عناصر كل خطة سياسية أو عسكرية في الشرق العربي.
في المقابل، يتطلع لبنان إلى الخارج، إلى الأفق البعيد، منفتحاً على زرقة المحيط بواجهته البحرية، منجذباً بجواذب غير قارية، مندفعاً بالمغامرة إلى ما وراء البحار. إنه لبنان الساحل، المنفتح، التوسعي الإستعماري، المتصل مباشرةً من أفريقيا وأوروبا وأميركا، في انتماء إلى حضارات حوض البحر المتوسط، أم الحضارات الغربية الحديثة، وقد أسهم إلى بعيدٍ، وبطريقة مجدية، في تطويرها طوال الآلاف الماضية من السنين.
من جهة ثانية، يلاحظ جواد بولس أنا مجاورة لبنان للبحر قد خلق بين أبناءه، وعلى غرار ما هو حاصل في البلدان الممثلة، طرازاً خاصاً من الحضارة والإقتصاد، أي مجتمعاً بحرياً دابه التبادل الإقتصادي، أي في حالة من الانفتاح الدائم على البضائع والأفكار الوافدة، مع ما يتسم به الإنفتاح من روح المبادلة المتعاطفة مع الآخر، ومناخ ديمقراطية وتسامح، وحب للتحرر والإعتدال، على ولع بالتقدم وجوانب الحياة الفكرية والفنية المختلفة.
أما الأقاليم القارية في الوجهة المقابلة فيسودها طراز مختلف من حيث الاقتصاد والحضارة، إن لم يكن مناقضاً؛ من اماراته الإنغلاق، والتزمت القومي، ومحاذرة الأجنبي، على انطوائية وتقوقع. واللحمة في هذه المجتمعات تضامن، أتني متين، وقومي ديني، وحتى ثقافي سياسي، تفرضه الدولة أو القبيلة؛ وسمتها.. الإقطاعية وشهوة السلطة والسيادة، يلاحظ معها حب التوسع العسكري حروباً وفتوحات،لأن الثروة الواحدة عندهم هي الأرض، يعملون على انمائها واتساعها بالإستيلاء على أراضي الآخرين.
وخلاصة هذه الملاحظات أن لبنان ليس بلداً متسطياً بحرياً بوجه عام، كما ليس قريان شرقياً بوجه كمن. وإنما هو مركب من العناصر المرتلفة التي يتكون منها المجتمعان معاً. وهذه ميزته بالمقارنة مع كامل بلدان الشرق المتوسطي العربي.. إذ هي قارية بكليتها تقريباً. وبفضل هذه الشخصية المزدوجة يؤهله جواد بولس لمخالطة البلدان الغربية على نحو لا يماثله فيها أي من شعوب الشرق، كما يراه الأجدر في مخالطة الشعوب الشرقية، والعربية بوجه أخص، قياساً على استطاعة شعوب حوض المتوسط والغرب بعامة في هذا المضمار، وذلك لاتصاله الواثق بالعالم العربي جغرافياً وثقافياً، على قرب من مناخه الحياتي بطبيعته ونفسيته، ذاك المناخ الذي لا يدهشه الإحتكاك به، ولو حمل إليه، غالباً، بعد المخاوف.
المجموع المتناقض.. على تماسك:
إن علاقة لبنان بالبلدان القارية، كما علاقته بالبلدان ما وراء البحار هي، في منظور جواد بولس، علاقةٌ إلزامية في الإتجاهين معاً، كونها مفروضة عليه بحاجات وجوده الحيوية. فالتدهور الإقتصادي وعدم الإستقرار السياسي في البلدان القارية يؤثران سلباً على اقتصاد المدن الساحلية في لبنان وحركتها التجارية، كما أن إغلاق البحر هو بمثابة القضاء المحتوم على حركة المرافئ اللبنانية، تجارةً وسياحةً، وخنقٌ لاقتصادياتها؛
حتى إذا فرضت ظروف ما على اللبناني أن يكتفي بالمواسم الزراعية وحدها، على ضيق المساحات الصالحة للزراعة، نجده يرضخ لنمط عيش من الحياة الإقتصادية المتوسطة، أو يفر منه فلا ينصاع، مهاجراً، في حاضره الراهن كما في ماضيه، إلى البلدان ما وراء البحار.
وقصارى القول الموضوع اللبناني هو موضوع مجموع متناقض، لكنه متماسك،وجهته القارة والبحر في آن معاً، الماضي والمستقبل. وعليه.. عندما نتكلم على وجه لبنان الحالي المزدوج، أو أصالة طابعه ودوره الخاص، لا يجوز أن نفسر هذه الظواهر بأنها الوحدة السياسية للطائفتين الكبيرتين فيه، المسيحية والإسلام؛
فالوجهتان الجغرفيتان، منفتحتين واحدةٌ على البحر والعالم الغربي، والأخرى على القارة والعالم الشرقي، بالإضافة إلى الخصوصيات النتيجة من هذا التوجه المزدوج في حقول الإقتصاد والعقلية والثقافة والإجتماع والسياسة، بمعزل من فكرة العرق أو الدين؛ هاتان تنقياً أساس وحدة اللبنانيين الإجتماعية والقومية والسياسية.
لبنان الدولة.. سياسة وفي التاريخ:
وقسمات لبنان الطبيعية، في رأي جواد بولس، هي في أصل ثرواته البشرية: فالجغرافية مكنته من الولادة وأمنت بقاءه، وهذا المجبمع من الجبل والشاطئ له دوره الخاص، فالجبل يمنح البلاد سمة ذاتيتها الأساسية ويهيئها للخلوة السياسية والعسكرية أي للإستقلال؛والشاطئ ومرافئه وسهوله أساس اقتصاده.. وحدة في التنوع، ومناخاً نفسياً يتلاءم والمحيط الجغرافي، وانجذاباً مزدوجاً كان لأبنائه منذ القدم.
ولبنان، لجواد بولس، تكوين سياسي وقومي وليد الجغرافية والتاريخ. إنه الحصيلة، راهناً، لتطور الشعوب التي لاذت به منذ زمان ما قبل التاريخ. وقد عملت أرضه التي تؤلف فردية جغرافية طبيعية، دون انقطاع وطول آلاف السنين، على جعله كياناً جماعياً وإقليمياً متميزاً، ومجتمعاً قومياً وطنياً متجانساً إلى حد ما. وقد تحققت له الوحدة السياسية بإرادة جماعاته الطائفية والإجتماعية المختلفة، في معزل عن فكرة العرق أو الدين.
إنه دولة فتية ولدت عام ١٩٢٠٬ واستقلت عام ١٩٤٣، لكنه من أقدم البلدان في العالم، إذ ولد تاريخياً منذ نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وتميز سكانه، عبر آلاف السنين، بذاتية جماعية وصفات نفسية خاصة، واضطلعوا برسالة هي في جوهرها تجارية وثقافية وروحية، على قرابة بخطوطها العامة مع مزايا اللبنانيين الحاليين.
وهو، كمعظم البلدان، عرف في تاريخه الطويل حقبات من التجزؤ والكسوف دامت قروناً في بعد المراحل، كابد سكانه في خلالها ملمات الدمار والعوز والإستعباد، لكنهم كانوا، يعيد انقشاع الظروف القاهرة، سرعان ما يعودون إلى رسالته المنزلة إرثاً في ذواتهم، ويسترجعون طبائعهم المميزة التي رسختها إلى بعيد أزمنةٌ طويلة من التطور الطبيعي.
خرجة:
التاريخ والجغرافية معاً خلقا الشخصية اللبنانية المميزة، فخصت من بد بالنشاط التجاري البحري، قديماً كما في الحاضر، وبلنشات الفكري الثقافي، كما هي حل ابنائه في كل عهد، وبالحرص الدائم على الإستقلال والحرية الفردية، إحدى ركائز فرادته في هذه المنطقة من العالم.


شهادة جورج مصروعة

المؤرخ العالم والفيلسوف:
له التاريخ لا ثوابت إلا بمقدار،
ومثله الجغرافيا.

جواد بولس الذي خسرناه – وكانت خسارتنا به ضخمة – لبناني كبير يجدر بنا أن نفتخر به ونعتز على أكثر من صعيد، فهو القانوني المتضلع، والسياسي الراشد، والمفكر العميق الغور، والاراضي الحازم،والإنسان الطيب المعطاء الملتهب شعوراً وطنياً.
إلا اننا، في هذه الكلمة السريعة، نضرب صفحاً عن هذه المزايا كلها، لنحصر قولنا في “جواد بولس المؤرخ” وقد أجاد في هذا المضمار، وخلق، وأبدع. قفز فيه من قمم المؤرخين القدامى إلا المستوى العالمي في اواخر هذا القرن العشرين.
الرجل النهج.. وقواعد:
جمع جواد بولس، من العصور القديمة، بين جزالة هيرودوتس، ورشاقة توسيديد، وفلسفة بوليب،وعمق إبن خلدون، ووضوح مونتسكيو؛ واحتل، في عصرنا هذا، مكانته الرفيعة إلا جانب أرنولد توينبي، وجاك بيرين، وموسكاتي، فإذا به علمٌ بين الأعلام، ومرجعٌ من أهم المراجع.
غربال أقوال كبار المفكرين ثم نخلها واستخلص منها نهجاً يكاد يكون فريداً يقوم على قواعد وطيدة، منها:
• أن للمورخ حاسة تاريخية لا وجود للسياسة بدونها، ورجل الدولة الذي يجهل التاريخ يشبه طبيباً لم يذهب إلا المستشفى ولا إلى العيادة، ولم يدرس الحالات ولا السوابق.
• وأن رجال الماضي يشبهون رجال اليوم، لا شيء يغير طريقة تفكيرهم في الشعور والإرادة.
• وأن المعرفة السياسية هي والدة الإختيار، أو الذاكرة الشخصية في الإنسان.
• أن التاريخ العلمي والفلسفي هو مدرسة السياسة الصحيحة.
• أن المؤرخ الجدير بهذا اللقب لا يكتفي بسرد الوقائع الماضية ووصفها وتحليلها، بل يعمل على إنارة الحاضر بها، وعلى إعطاء المستقبل وسائل الإستشراف والفهم.
على أساس هذه المعطيات – المبادئ وغيرها من الإعتبارات الجوهرية أكب جواد بولس على كتابة التاريخ. وقلبه على لبنان، فوضع بلغة الفرنسية مؤلفه القيم الواقع في خمسة مجلدات: “شعوب الشرق الأدنى وحضاراتها”، ثم (بالعربية) “التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الأدنى منذ الإسلام”، فكان في الأول بحاثةً دقيقاً إلى أقصى حدود الدقة، وفي الآخر فيلسوفاً يمحص الأسباب ليستخلص النتائج.
ولعل أجمل ما فيه حرصه العلمي الشديد على عرض الأحداث بوضوح، ومعالجة المعضلات بروح علمية موضوعية، وترتيب الوقائع وتنسيقها بشكل يغرسها في ذهن القارئ غرساً، وهو القائل مع من قال: “التاريخ هو سياسة الماضي، وسياسة الحاضر هي تاريخ المستقبل”.
ثوابت الجغرافيا والتاريخ:
ولما كان التاريخ علماً وفلسفة، عالجه جواد بولس على هذا الإعتبار، ومن هذه الزاوية، فدرس، قبل الأحداث مجردةً، الأسباب التي أدت إليها، ثم شرح تطوراتها في الزمان والمكان، مشيراً إلى العوامل التي تحرك الشعوب وتبقى هي هي (كذا)، فسمح “ثوابت”.
وقال، كزميلة أرنولد توينبي، إن التاريخ هو إبن الجغرافيا، ولما كانت الجغرافيا ثوابت، وجب أن تكون في التاريخ ثوابت أيضاً. إلى أنا جوداً لم يعتبر الثوابت الجغرافية مطلقةً كما اعتبرها زميله البريطاني، بل قال بأنها “نسبية” لعلمه بأن صحراء غوبي، مثلاً، كانت بحراً، وأن الربع الخالي في شبه الجزيرة العربية كانت جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأن الصحراء الأفريقية الكبرى كانت سباسب ومروجاً وسبخات ومستنقعات تسرح فيها التماسيح، وقد تعود هذه الصحارى إلى ما كانت عليه. إذن، فالثابتة الجغرافية إلى حين، وما فيا في حكم المطلق. انها نسبية. ولكن الفرق بين التطورين، التاريخي والجغرافي، هو أن الأول أسرع، والآخر بطيء جداً بالنسبة إلى سرعة حياة الإنسان.
ولكن، وبما أن التاريخ هو إبن الجغرافية، فهل يمكن القول إن الثوابت التاريخية هي نسبية أيضاً؟
هنا يقف جواد بولس متردداً، ويكتفي بمجال التاريخ المنظور والمعقول والمرهع، فيترك التغييرات السطحية جانباً، ويعمد إلى درس النفس البشرية، بما فيها من سرعة التأثر، والأهواء، والغرائز، وهي التي، في النهاية، تصنع التاريخ، وتبقيه، بدوامها، مرشداً بسيطاً وصفياً. فمنذ ظهور الكتابة والتاريخ يقوم بدور الذاكرة الإنسانية. فبفضله يمكن إعادة تمثيل الحياة الإنسانية في تسلسلها الزمني، وفي مركنتهة العديدة، عنيت:ع السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية”.
ضوءٌ لتوثيق.. فدعاء:
لا بد من التذكير بأن التاريخ لم يكن، فيما مضى، علماً وفلسفة، كما هو اليوم، بل كان مستودع حوادث، يأخذ منه “المؤرخ” ما يطيب له، ويحمل ما لا يستسيغ. ولا يكتفي بهذا النوع من البتر والتقطيع، بل يعمد إلى تحوير ما اختار ليجعله مطابقاً لوجهة نظره، وفي ذلك ما فيه من التشويه والتزوير.
المحاولة الأولى حدٌ لهذا التلاعب هي إنشاء”جمعية التاريخ والجغرافيا” في فرنسا، عام ١٨٥٠. وبنشوئها وضعت للمؤرخين حدود، وأقيمت عليهم مراقبة. وجواد بولس هو أحد الكبار الذين لمعوا في المدارس التاريخية الجديدة، بعد تأسيس هذه الجمعية، فإذا به يجعل من بحثه علماً إختبارياً يخضع لسنن معينة، نفعنا الله بعلمه، وأسبغ عليه رحمة واسعة.


شهادة ميخائيل نعيمة

“لبنان والبلدان المجاورة”:
علمٌ على سنن.. في مدى البصر الإنساني القاصر

“التاريخء.. بصرنا القاصر:
عندما أفكر بالأبعاد الكونية التي تقاس بملايين السنين الضوئية؛ عندما أسمع من الذين يدعون المعرفة أن عمر الأرض ألفا مليون سنة، عمر الإنسان عليها ما بين مليون وثلاث ملايين سنة؛
عندئذٍ.. تتضاءل في نظري قيمة كل تاريخ لا يعود بالإنسان إلى الوراء إلا بضعة آلاف من السنين.
إلا أننا، إلى لم يكن لنا البصر الذي يمتد إلى الأزل وإلى الأبد، فنحن مكرهون أن نروي لبعضنا البعض ما كان من أمرنا مع الطبيعة، ومع بعضنا البعض في المادة ما كان من أمرنا مع الطبيعة، ومع بعضنا البعض في المادة الضيق من الزمان والمكان الذي يتناوله وعينا وتسجله ذاكرتنا؛ والذي نرويه هو ما درجنا على تسميته”التاريخ”.
لبنان.. جواد بولس:
وجواد بولس، صاحب “لبنان والبلدان المجاورة”، هو أحد أساطين التاريخ في شرقنا العربي، وله فيه جولات واسعة وجريئة ليس هذا الكتاب إلا واحدة منها.
فالتاريخ عنده هو أكثر بكثير من سرد أحداث وقعت هنا وهنالك. إنه علم يجري على سنينٍ قلما تتبدل على كر السنين. فالكل شعبٍ من شعوب الأرض ميزاته الخاصة هو الذي يحدد شخصيته الماضية والمعنوية، والذي يجعله عرضةً دائما لشتى التيارات البشرية التي تأتيه من الشرق والغرب، أو من الشمال والجنوب.
ولبنان بجباله القائمة بين الصحراء والبحر، وبروعة تكوينه واعتدال مناخه، ما شذ يوماً عن القاعدة. ولأنه مميز بوجهه الطبيعي من وجوه جاراته فشعبة كذلك مميز بتركيبه الروحي والإجتماعي من الشعوب المجاورة له، وتاريخه من وجوه كثيرة هو غير تاريخها.
لقد أسد جواد بولس بكتابة هذا خدمةً جلى ليس للبنان وحده، بل للتاريخ كذلك.


رابعاً ..

لو أنّك .. لو أنّا ، أكثر من إنسان !
مشَيْتُكَ . .
طريقَ ورد و غار ،
و غادرْتُك . .
شمعتانو قُبَيْلَ رَحيلي :
واحدةٌ أُري بها أبناءَ جيلي ،
و ثانيةٌ هي التّذكار .
و بعدُ . . لو أنّي ، لو أنّا
أكثرُ من إنسان ،
و الدُّنيا وقَفاتٌ مضيئهْ
ما كنتُ إلاّ لأتمنّى
تكرارَ هاتيكَ النبؤهْ ،
عودةَ النّهر إلى المنبع ،
و شعّةَ الحقّ من فكركَ الالمعى .
آه . . ليتَ كلّ ما يُسمَع مقيم !
هو الزّمنُ الأجربُ حتميّ الغيابْ
و غناؤنا الأصهبُ مجروحُ الرّبابْ
ليتَ كلّ ما يُقرأ ، ، يدُوم !
لو أنّك . . لو أنّكَ . . لو أنّ هاتيكَ ألقابْ
تُعيدُها إلينا رَحَماتُ الكريمْ
و تبقى ذُخْراً لدَينا !
” الحكمة ”

في ثلاث . . بدءاً بك :

١- ثمارٌ . . من لدُن عمرك .

٢- قُطوفُ قادريك على دربك.

٣- جائزتُكَ . . و برّاً بعهد .

١- ثمار.. من لدن عمرك..

نواة لحدائق .. مع غرة لقرن:
مع مطلع هذا القرن ، و تحديداً في السنة ١٩٠٠، وُلد المؤرّخ جواد بولس في زغرتا ، و توفّي في ١٦ أيلول – دسمبر ١٩٨٢.
في طفولته وعى الحياة السياسية على أخبار جدّه لأبيه الشيخ أسعد ، فضلاً عن الوقائع الحربية التي حقّقها بنجاح أثناء قيادته العسكرية لقوات يوسف بك كرم ، جنْباً إلى جنب مع البطل الشمالي المعروف .
لعب جدّه دوراً كبيراً زمن المتصرفية إلاّ أنّ الدولة العثمانية ضاقت بدعواته التحريرية فأبعدته إلى اسطمبول فترة ، ما لبث أنْ عاد بعدها إلى زغرتا حيث مات و دُفن .
لم تكن الشخصيةُ السياسية و العسكرية حدثاً عارضاً في حياة جدّه و انتهَى . فقد كان وراءَ تلك الشخصية فكرٌ خلاّق تركَ مذكرات تاريخيةٌ قيّمة باللغة العامية . أما مصيرُ تلك المذكّرات فمنوطٌ بورثة يوسف ابراهيم يزبك الذي أخذ على عاتقه مراجعتها و صياغتها من جديد و تُركت بين أوراقه !
هذه المراجعة لشخصيّة الجد ضرورية لمعرفة التأثير الأول في تكوين شخصيّة جواد بولس بن سمعان بولس دوكتر سليمان الباشا ، و شقيق فريد و ادمون و سليمان و حسنا .
لقد تركَ الجدّ بصماته بوضوح على الطفل جواد ، و كان مقرّراً أن يهيئة لتسلم القيادة العسكرية و السياسية من بعده ، فكان يدفعهُ إلى ممارسة ركوب الخيل و ضروب الفروسية المعروفة في ذلك الحين . إلاّ أن جواد بولس كان معدّاً لدور آخر يختلفُ عن تقاليد تلكَ البقعة من لبنان ، و إنْ يكنْ ورثَ عن الجدّ تلك القسمات الصارمة التي أقرب ما تكون إلى الشخصية العسكرية و ذلك الطبع الصلب المستقيم الذي لا يُهادن في الحقّ و الحرية و الكرامة.
لقد تحوّلت الخصالُ العسكرية في التصرّف إلى خصال معنوية في الحفيد ، و تركت أثرها الظاهر في شخصيّته الصارمة جوهراً و مظهراً . كما أنها بطبيعتها المتقشّفة الزاهدة جعلتْه يُعرض عن أمور الدنيا اليومية ليعيش عيشةَ الرهبان الذينَ نذروا أنفسهم لقضية التبشير بالرب ، فيما هو نذرَ نفسَه لقضية التبشير بلبنان . تلكَ الشخصية التي جعلت البطريرك السابق المعوشي يسرُّ إلى جلساته ، و كان بينهم المؤرّخ بولس : ” لو لم أكن بطريركاً لانتخبتُ جواد بولس مكاني ” .
هذا الاحترامُ الكبيرُ من رجال الدين و الدّنيا فرضتْهُ مسلكيَّة الرجل في حياته ، تلك المسلكية التي شرّفت السياسةَ التي خاضها في مطلع حياته ، و تركها غيرَ آسف بعد أن اكتشفَ أنها لا تروي غليله إلى المعرفة السياسية الكبرى في التاريخ . فكان أن انصرفَ إلى محراب التاريخ منذ السنة ١٩٤٥.

في معارج المرقاة . . إلى الألق :
جواد بولس الطالب .
و لكن قبل أن نخوض في تحوُّله عن السياسة و انصرافه إلى التأليف في التاريخ ، لا بدّ من إلقاء مزيد من الأضواء على نشأته الأكاديمية بدءاً من إلقاء مزيد من الأضواء على نشأته الأكاديمية بدءاً من مدرسة ما يوسف في زغرتا ، حيث تلقّى دروسه الأولى قبل أن ينتقل إلى مدرسة عينطورا في عينطورا القريبة من جونيه . لقد مكثَ فيها ثلاث سنوات و ثلاثة أشهر قبل أن تُقفل أبوابها في كانون الأوّل ( دسمبر) سنة ١٩١٤ مع اندلاع الحرب العالمية الأولى . لفد اضطر وَالده بسبب إغلاق المدرسة إلى تعيين أستاذ خاص له علّمه طوال فترة الحرب . و كان جدّه يتابعُ مسيرته الدراسية باهتمام بالغ ، لأنّه كان يتوسّم فيه دوراً غير عادي . فكان يجزي المعلّم ليدفعَه إلى مزيد من الاهتمام بحفيده ، و كان يحملُ الكتبَ من مكتبات الكهنة و الأديار في الشمال ليوفّرها لحفيده النَّهم إلى العلم و المطالعة . و يُروى أنه مرّة أحضر له جدّه كيس كتب من كفرحورا من مكتبة العلاّمة الخوري ورد ، و ألحّ عليه أن يقرأ كتاب ” بوسيط ” فطالعه و تبين له فيما بعد أن ” بوسيط ” لم يكن غير بوسوييه (Bossuet ) .
الحرب العالمية الأولى التي انعكست آثارها جوعاً و موتاً لم تؤثّر في حياة الصبي اليافع لأن أهله كانوا في بحبوحة .
إلاّ أنّها انعكست عليه جوعاً من نوع آخر ، جوعاً إلى المعرفة لا يرتوي !
و بالرغم من محاولة جدّه لتعليمه شيئاً من فروسية تلك الأيام عندما أهداه فرساً أصيلة ليمارس هواية ركوب الخيل ، و فال له : ” يا ابني الإهدني و الماروني عليه أن يكون فارساً ” ، فإنه بقي بعيداً عن ساحاتها و إن يكن نفذ رغبة جدّه في أوقات فراغه و من باب التسلية بعد إرهاق الدرس .
ما كادت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها حتى ذهبَ الشاب جواد إلى بيروت ليلتحق بمعهد الحقوق الفرنسي فيها . و لما كانت الجامعة قد اشترطت على الذين لم يتمكّنوا من إنهاء دراستهم الثانوية بانتظام بسبب الانقطاع الذي فرضته الحرب ، أن يُقدموا امتحاناً بعد سنة إعدادية ، فقد حمل الشاب المتحمس مواد السنة الإعدادية إلى بلدته و أمضى الصيف في قراءتها و قدم امتحاناً ناجحاً خوّله الدخول إلى الجامعة المذكورة في السنة ١٩١٩.
و بما أنَّ إجازة الحقوق لم تكن لتستغرق أكثر من ثلاث سنوات في تلك الأيام فقد اجتازها الطالب الشاب بنجاح ملحوظ ، و نال على أثرها إجازة في الحقوق أهّلته الدخول في عالم المحاماة .
جواد بولس المحامي .
سنةَ تخرُّجه ١٩٢٢بدأ جواد بولس يمارس فترة تدرُّجه في مكتب الرئيس إميل ادّه إلى جانب الشيخ بشارة الخوري . و منذ ذلك الحين بدأت بينه و بين الرئيس إدّه علاقةُ صداقة متينة و إعجاب متبادل لم تبدّله الأيام . فيوم قوطع الرئيس اميل ادّه مقاطعةٌ سياسيّة إثرَ موقف سياسيّ له ، و لم يكن أحد يتجرّأ على زيارته ، ظلّ جواد بولس على وفائه رغمَ كلّ المخاطر و كان يقطع المسافة جهراً إلى بيت الرجل الذي فتح له مكتبه و قلبه و عقله غير عايئ بالسياسة و أهلها !
و من ثمّ انتقل إلى طرابلس ليفتح مكتباً خاصاً به و ليقيم فيها . و إذا بالدعاوى تنهمرُ عليه من طرابلس و اللاذقية و بيروت بعد أن لمع نجمه كمرجع في القانون ، و اشتهر بأخلاقيّة نادرة و مصداقية في القول و الفعل . لقد كان يمارس المهنة بروح رسولية فلم يكن يتلقى أجراً ممّن عرف أنه بحاجة إلى رفع ظلم عنه . و لم يكن يتبنّى الدعاوى إلاّ التي يراها محقة . فكان مثارَ إعجاب زملائه الذين انتخبوه نقيباً لهم في الشمال مرّتين ، قبل أن ينتقل إلى الحكم ، المرة الأولى (١٩٣٢ – ١٩٣٤) و المرة الثانية (١٩٣٨ – ١٩٤٠) . و ظل مكتبه مفتوحاً إلى أواخر الخمسينات حيث سلّمه إلى ابن أخيه المحامي سيمون بولس
جواد بولس الزوج .
في مطلع حياته العلمية في المحاماة (١٩٢٢) تزوّج جواد بولس من انجيل انطون صوايا المقيمة في الاسكندرية و الطرابلسية الأصل . و قد تعرّف إليها خلالَ صيف تردّدتْ فيه مع أهلها إلى لبنان و كان ” نصيب ” لم يعمّر طويلاً لأنها ماتت في تموز من السنة ١٩٥٨ دون أن يُرزق منها بنين .
و في السنة ١٩٦٨ تزوج من ليندا سوسه أرملة الكونت دو صعب و هي من المهاجرين اللبنانيين إلى مصر .
جواد بولس السياسي .
بحكم موقع عائلته السياسي و مسؤوليات جدّه أسعد ، قدوة حياته ، و الذي ورث عنه الحب و النزاهة و الوفاء ، فقد كان مقدراً له أن يتسلم زمام القيادة السياسية في عائلته خصوصاً و قد اختاره جدّه منذ طفولته و صباه لهذه المسؤولية بحكمة بعد أن لمح فيه بوادر النبوغ و الجدّ و الاستقامة . و قد حفظ لجدّه هذه الثقة و هذا الحب مدى الحياة ، فكان يفاخر بأنه ” حفيد أسعد بولس ، البطل و القديس ، و صديق يوسف بك كرم ، و باني الزعامة ” ، و قد احتفظ بعدَّته العسكرية الشخصية في بيته يزينُ بها جدرانه .
قبل أن يتسلّم زعامة العائلة ، و زغرتا عائلات ، كانت الزعامة معقودة لعمّه ميشال ، لأن والده كان ضابطاً في الدرك . إلا أن المقاليد سرعان ما أسندت إليه بعد أن لمع نجمه كصديق لإميل ادّه و بشارة الخوري و للفرنسيين الذين و ثقوا فيه كما لم يثقوا بأيّ سياسي آخر !
صحيحٌ أن الزعامة السياسية آلت إليه بالوراثة إلا أنّه استحقها عن جدارة منذ إطلالته الأولى من مكتب إميل اده و الصداقات التي اكتسبها بحكم تعاطيه في بيروت و من ثم في طرابلس ، هذا التعاطي الذي ترك انطباعاً لا يمحى من كل الذين عرفوه .
كان من الممكن أن يغرقَ جواد بولس في عصبيّات محيطه إلاّ أنه كان يسعى بكل تصرُّفاته إلى نبذها بالاحتكام إلى روح الضمير و القانون . فاستحقّ لهذا المسلك إعجاب مواطنيه . لقد حاولَ بكلّ ما أوتي من حكمة أن يقتلع جذورَ الثأر و العنف بادئاً بالأقربين ، فأبعدَ شقيقه سليمان إلى المكسيك خشية أنْ يعلق في مشادات التحدي ! فكسب الرهان ، و بقيت عائلته الوحيدة ، بفضل سلوكه و حكمته ، بعيدةً عن أجواء التحديات .
و حدَه بين أبناء بلدته كان يُعرف ب ” الأستاذ ” . و قد حافظ على المسافة بينه و بين غيره دون أن يجرح هذا الغير . فقد كان يحترم كلّ إنسان و لو كان من غير رأيه أو سياسته ، فاكتسب احترام الجميع .
لعلّه كان مرشحاً ليلعب دوراً حزبياً كبيراً في الكتلة الوطنية التي ألفها صديقه إميل ادّه لولا أنّ روح العائلة كانت في صميم كل فرد زغرتاوي .
عُيّن جواد بولس فس المجلس النيابي يومَ كان المجلس تعييناً لا انتخاباً السنة ١٩٣٧ – ١٩٣٩.
و في ١٨ آذار (مارس) من السنة ١٩٤٣ أصدر المندوب السامي أو المندوب العام المفوض لفرنسا المحاربة في الشرق قراراً قضى بتعيين الدكتور أيوب ثابت رئيساً للدولة ، و جواد بولس وزيراً للخارجية و الأشغال العامة و الصحة ، إلى جانب الأمير خالد شهاب الذي أسندت إليه حقائب أخرى
و فوّض إلى هذه الحكومة كلّ السلطات التنفيذية و التشريعية لأنه لم يكن هناك من مجلس نيابي
و أناط بالحكومة هذه مهمةَ إعادة الدستور و إجراء انتخابات نيابية عامة ، على أن تكون هذه الانتخابات تمهيداً لمرحلة الاستقلال
و رغم أن الانسجام كان مطلقاً بين أعضائها ، و خصوصاً لما يتمتعون به من علم و نزاهة و وطنية إلى درجة أنها لم تكن تعقد ما صرنا نعرفه بالمجلس الوزاري ، بل ” كان كلّ وزير يقرّر و يرسل قراره إلى رئيس الدولة للتوقيع كان مرتب الوزير زهيداً ٤٠٠ أو ٥٠٠ ليرة شهريّاً و ٢٠٠ ليرة مصاريف بنزين أيوب ثابت كان يقبضُ عشرين ألفاً كل شهر في ذلك الحين ”
” لم تكن الدولة قد هُيّئت و لم تكن موازنتها بالشيء الذي يُذكر ” .
يقول جواد بولس : ” في تلك المرحلة نظمتُ العمل في وزاراتي و أعطيت المدير صلحيات واسعة باعتبار أنّ مسؤولية الوزير هي محصورة بالتخطيط و التوجيه و المراقبة ” .
لم تكد الحكومة تشرع بتشريع قانون الانتخابات ، حتى وقع خلاف على توزيع المقاعد بين المسيحيين و المسلمين . كان مجلس النواب ، حسب المشروع مؤلَّفاً من ٥٥ نائباً . ٣٢ للمسيحيين و ٢٣ للمسلمين . فقمنا بإحصاء رسمي و وزعت المقاعد النيابية على نسبة السكان . و ما تزال ملفات هذا المشروع في محفوظات وزارة الخارجية . و مع أن الأمير خالد شهاب وافقني على هذا التوزيع القانوني ، فقد انفجر الشارع الاسلامي يومها في وجه المشروع و عَلَت المطالبة بتعديله . فكان جوابي و جواب الحكومة أننا مستعدون للتعديل إذا وجدنا خطأً قانونيّاً في الأمر أو في الأرقام ، لأن مشروعنا مستمدّ من إحصاءات رسمية دقيقة . و إثرَ أخذ و رد جرت تسوية بين الجنرال كاترو و النحّاس باشا في القاهرة قضت بإعادة توزيع المقاعد ٢٥ للمسلمين و ٣٠ مقعداً للمسيحيين . عندها رفضت الحكومة الإذعان لهذا الاحتكام الكيفي فاستقالت و أقيلت ” .
خاض جواد بولس الانتخابات النيابية في دورة ١٩٤٣ و معه راشد المقدم على لائحة إميل ادّه مقابل بشارة الخوري و على رأسها حميد فرنجية و عبد الحميد كرامي . إلا أنه قبيل أسبوع من إجراء الانتخابات عمد الإنكليز إلى تلفيق تهمة وجود حشيشة عند راشد المقدم ليفرطوا عقد الائحة التي يرأسها جواد بولس . و ما تزال محفوظات وزارة الخارجية الفرنسية تحتفظ بمعلومات مفصلة عن التدخل و الرشوة في تلك الانتخابات التي خسرها جواد بولس .
خسر جواد بولس معركة الانتخابات و أشاح عن عرض الجنرال سبيرس المشروط للرئاسة ، و نجح حميد فرنجية و انتخب نصير السياسة الإنكليزية بشارة الخوري رئيساً لدولة – الإستقلال ، و كاد حميد فرنجية يكون بعده و سقط ظل الانتداب الفرنسي . و ترك جواد بولس السياسة لأهلها و ذهب إلى التاريخ باعتباره أصدق من السياسيين .
و عادت الأيام لتؤكّد الرهانَ الذي عقده جواد بولس على مصداقية السياسة الفرنسية و خطأ السياسة الإنكليزية العروبية فقد كان يقول عند اندلاع أحداث لبنان في مطلع١٩٧٥: ” كنا على حقّ مع الرئيس اميل ادّه ، و كان حميد فرنجية و بشارة الخوري على خطأ . الاستقلال ليس كلمات بل هو عمل و إمكان بقاء ” .
جواد بولس مرشح الرئاسة الدائم .
في السنة ١٩٥٨ و قبل أيام من انتخابات الرئاسة الأولى أبرق إليه الدكتور شارل مالك مهنئاً ، إلا أن التهنئة لم تتمّ فصولها لأن انقلاب العراق أطاح بمجيء مدنيّ على رأس الحكم ، فتولّى الرئاسة يومها فؤاد شهاب .
و في الإنتخابات الرئاسية التالية تكرّر اسمه كمرشح إجماع من قبل صديقيه ريمون ادّه و كمال جنبلاط . إلاّ أن ترفّعه عن السعي إليها جعله بعيداً عن المرمى .
حتى إن فؤاد شهاب حاول أن يستعين ” بآدمية ” جواد بولس فأرسل إليه صديقهما رينيه عجوري رئيس تحرير ” لوريان ” فلم يفلح في إقناعه بحقيبة الخارجية ، لأنه اشترط رسم سياستها لا الرئيس .
جواد بولس الأكاديمي .
جواد بولس عضو في الأكاديمية الفنزويليّة للتاريخ منذ السنة ١٩٦٧. و هو رئيس الأكاديمية اللبنانية التي تأسست قبيل الحرب و انقطعت نشاطاتها منذ ذلك الحين بسبب الأحداث . و قد تألفت من : الدكتور شارل مالك ، و عمر أبو ريشة ، و عبدالله العلايلي ، و سعيد عقل ، ثمّ ضمّت إليها : جورج شحادة ، و الدكتور عادل اسماعيل ، و الدكتور جورج فواز و الشيخ نديم الجسر ( توفي خلال الأحداث ) ، و سيمون عواد كسكرتير لها .

رجل التاريخ . . للأرض و للإنسان
منذ أن أطلق جواد بولس السياسة (١٩٤٥) ترهَّب للعمل التاريخي فجاءت موسوعته ” تاريخ شعوب الشرق الأدنى و حضاراته ” ، لتؤكّد على موضوعيته و نظرته المجردة في الأحكام . ممّا حدا بالمؤرّخ أرنولد توينبي بعد قراءته لأوّل جزء منها ( و هي تقع في خمسة أجزاء ، ٢١١٠ صفحات ) ، و قد صدرت تباعاً بين (١٩٦١ – ١٩٦٨) إلى تقديم الأعمال بكلمة هي الوحيدة التي قدم بها أثراً تاريخياً .
و عل أثر صدور الجزء الأول من موسوعته الفرنسية أهدى المؤرّخ جواد بولس نسخةً منها إلى الرئيس شارل دوغول الذي عرفه عن كثب يوم كان في لبنان . فتلقّى منه بعد ذلك رسالة .
ثم أصدر جواد بولس كتاباً عن تاريخ لبنان (١٩٦٩) بعنوان ” لبنان و البلدان المجاورة ” أعيد طبعه سنة (١٩٧٣) ، و هو تاريخ مقارن للبنان و سورية و فلسطين منذ الأصول حتى اليوم ، قبل أن يصدر كتابه الأخير قبيل وفاته بأسبوعين و إثر نوبة قلبية : ” التحولات الأخيرة في تاريخ الشرق الأدنى منذ الإسلام حتى ١٩١٨. و كانت هذه التحولات بفعل تدخُّل حدث أو شخصية تاريخية على المسرح التاريخي .
و في كل مؤلّفاته لم يحد جواد بولس عن نظريته الثابتة التي تقول بأن لبنان مميّز بوجهه الطبيعي من وجوه جاراته ، لذا فشعبه مميّز بتركيبه الروحي و الاجتماعي من الشعوب المجاورة له ؛ و حتى تاريخُه من وجوه كثيرة هو غير تاريخها . فالشخصية السورية التي تعتبر الأقرب إلى الشخصية اللبنانية نجدها مختلفة عنها باختلاف البيئة الجغرافية في البلدين ، الجبل و البحر في لبنان ، و الواحات و الصحراء في سورية . ممّا يستتبع طَبْع السكان بطابع مختلف رغم الالتصاق الجغرافي . فالمناخ جبلي و بحري في لبنان ، و صحراوي بري في سورية . و يفصل بين هذين المناخين أسوار عالية هي جبال لبنان و السلسلة الشرقية التي تشكّل سدًّا منيعاً بين الصحراء و البحر :
” إن تاريخ البلدين سورية و لبنان ، منذ آلاف السنين ، يؤكد هذه الحقائق الراهنة : ذهنية و نفسانية بريّة ، قاريّة و صحراوية في سورية فيما هي جبلية ، بحرية منوسطية في لبنان ” .
تبقى الروح المفعمة بالإيمان التي خرج بها جواد بولس في نهاية كتابه الأخير عندما قال : ” يثبت لنا التاريخ أن المجد للخالق وحده و له وحده الدوام . أين الدول و الممالك الكبيرة و السلطنات العظيمة التي كان مؤسّسوها يعتقدون أنها ستدوم إلى الأبد ؟ لقد بدأت تتفتت ، و تتفكك ، كما رأينا عقب وفاة مؤسّسيها ، و في غالب الأحيان ، في حياة هؤلاء المؤسسين الذين كانوا يعتقدون أنهم هم أيضاً لن يموتوا فيتصرفون و كـأنهم خالدون على الدهر !
باطل الأباطيل ، كلّ كائن حي سائر نحو الزوال : له فتوته و شبابه و كهولته و شيخوخته و موته ، و في كثير من الأحيان ، يموت قبل أن يشيخ ” .
أمبراطوريات القوة زالت ، و بقي لبنان الستة آلاف سنة أقوى من الموت لأنه في قرارة جواد بولس التاريخية : ” الحلف الثابت بين الجبل و البحر ، الجبل الذي يمنح أبناءه نعمة الاستقلال فينشط فيهم هذه الرغبة ، و البحر نعمة الانفتاح في تعاط فكري و إقتصادي و علمي مع العالم الأوسع ” .

٢– قُطوفُ قادريك على دربك.
-تفرد مصنّف الأستاذ جواد بولس في تاريخ آسيا الغربية بخصائصَ جعلته يُساهم في بيان معرفتنا في ذلك الموضوع مساهمةً بالغة النفاسة .
فأُولى تلك الخصائص أن الأستاذ بولس نفسه سليل تلك البقعة التي يجلو تاريخها . و كان الفضلُ في معظم التآليف الحديثة في تاريخ آسيا الغربية ، إلى الآن لمؤلّفين أوروبيين أو أميركيين ، حتى صدر آخر الأمر تاريخٌ ديجته براعةٌ علاّمة موطنه لبنان ، باب هذه المنطقة التي هي في صميم من العالم المتحضر ” .
و ثانيهما أن الأستاذ جواد بولس تناول موضوعه بنظرة شاملة على رحابة أطرافه ، فقدّم لنا سجلاً لتاريخ آسيا الغربية من قبل أن ينتظمها التاريخ حتى اليوم ؛
و ثالثهما أن هذا المؤرخ الغربي – آسيوي ما فتئ يقظاً إلى ظاهرة التتابع المستمر التي يعرضها تاريخ هذا القطر من العالم ، فبسطها ، و لمس ، في الوقت ذاته ، العناصر الدائمة في المشهد التاريخي ، كما أبرز وجود عوامل ثابتة ، جغرافيةٌ كانت أو نفسية ، تتوثق فيما بينها من خلال جميع مظاهر التغييرات الطاغية على صفحة الحياة .
و إن تراث شعوب اللغة العربية ، في مذهب الأستاذ بولس ، لهو التحقيقُ الكامل للحضارة في هذه البقعة ذاتها حيث انبثقت الحضارة أول ما انبثقت .
لهذا سيجدُ القرّاء العرب ، شأنهم في ذلك شأن القرّاء الغربيين ، في دراسة هذا المصنّف الكثيرَ مما يعوزهم علمه.
أرنولد توينبي
(١٣ أيّار – مايو، ١٩٥٧)

– سيدي الوزير ،
هذا الجزء الأول من ” تاريخ شعوب الشرق الأدنى و حضاراته ” أتاح لي تقدير أهمية العمل الذي كرّست نفسك من أجله .
و إنّي فيما أتمنى لك النجاح ، أشكرك على تقدمتك التي أثّرت في عباراتها .
تفضّل ، سيدي الوزير ، بقبول عواطف التقدير الرفيع .
شارل دوغول “
( رسالته إليه في 18 تشرين الأول – اكتوبر – 1967 ، عقبَ إهدائه كتابه ) .

– حضرتُ مؤتمراً ثقافيًّا في نيودلهي ، و آخر في لاهاي ، خلال فترتي الدبلوماسيَّة . و في مداولات المؤتمرين كانت الأبحاث منصّبةً على علم التاريخ الذي هو علمُ كلّ العلوم الإنسانيَّة .
و كم كانت فرحتي كبيرة عندما سمعتُ المفكّرين في هذين المؤتمرين يستشهدون بثلاثة كبار اعتبروهم بحقّ مؤرّخي العصر : بريستد و توينبي و جواد بولس .
و عندما فكّرت منظمة الأمم المتحدة في كتابة تاريخ أفريقيا ، اقترحت اللجنة المكلفة تنفيذَ هذا المشروع على رئاسة المنظمة ، أن يتولّى الإشراف على فريق المؤرّخين المؤرّخ العلاّمة جواد بولس ؛
كما أنّها عندما تداولت في إنشاء مركز لعلوم الإنسان في جبيل ، اقترحت تسمية جواد بولس لرئاسة هذا المركز.إن هذه الثقة العالميَّة الكبيرة بمؤرّخ من بلاد الشرق هي علامة فخر للبلاد العربيّة عموماً ، و لبنانَ خصوصاً باعتباره المنطلق لكلّ المبادرات الثقافيّة .
فتحيّة إلى العلاّمة الكبير الذي رفع اسمَ لبنان عالياً .
عمر أبو ريشة
( تنشر للمرَّة الأولى )

– يعتبر جواد بولس من أكثر الأشخاص الذين كتبوا التاريخ اللبناني بثقة و دقّة . كانت المناقبيّة تشكّل الذروة في تعامله مع الإنسان كقيمة إنسانيَّة لها فضائلها الكاملة ، إضافة إلى كونه صاحب قلب نقيّ ، مخلص و وطني . . .
من أبرز المحطات في حياته ، إلى جانب كونه مؤرّخاً ، ترؤسه الأكاديميّة اللبنانية التي أسَّسها مفكّرون من أبرزهم : شارل مالك ، فؤاد أفرام البستاني ، سعيد عقل ، و ميخائيل نعيمة الذي شارك في جلستين ، و أنا .
. . . كان جواد بولس لولب الأكاديمية و محرّكها الحيوي ، نظراً لما تمتّع به من بعد نظر ، في ما خص القضايا الحساسة التي عاشها لبنان ابتداء من الستّينات .
ثاقب النظرة . علّل الأسباب و أعطى الحلول التي لو سمعها من يجب أن يسمع لوفَّر على لبنان الكثير من مآسيه.
عبدالله العلايلي .
( تنشر للمرّة الأولى )

Bien cher Said,

Heureusement que je connais votre écriture, car autrement je me serais secondé qui n’envoyait de Beyrouth cette grande pays de Jawad Boulos. Entre l’Orient que j’en et l’Orient Sryie pas de solution de continuité ‘’. Je vous en remercie très vivement et vous demande de féliciter l’auteur de ma part. Je vous remercie encore d’avoir pu, grâce à vous, faire sa connaissance. Gi tes-lui que d’approuve tout à fait ses théorises et en particulier ses conclusions. Elles sont d’un grand ris tersée et d’un grand honore d’Etat.

J’espère que vous allez bien et que votre santé se maintient.

Croyez-moi toujours bien fidèlement et amicalement vôtre.

PARIS, le 26 Avril 1967


إشاعة كالنُّور فَوقَ القمم.جائزتُك . . و برًّا بعّهد .
١- جائزتُك ..
باسم مؤسسة جواد بولس نحييكم ، و نعلن انشاء مؤسسة جواد بولس .
جواد بولس الذي عرفتم و قدّرتم افتقده لبنان و هو أحوج ما يكون اليه .
درس السياسة درساً عميقاً طويلاً من خلال التاريخ المتتابع في الغرب و الشرق فأُعجب بها .
و خبرَ السياسةَ العملية المكيافيلية خبرة قصيرة ، فنقرَ منها . و لم يلبث أن عاد الى دراسته يخدم وطنَه لبنان بثقافته الجامعة بين النظر و الاختبار .
فأسهم بمقالاته في مجلتنا ” الفصول ” التي كان من أسرتها ، في توضيح دور لبنان منذ ستة آلاف سنة .
كما أسهم بمجموعته الفرنسيّة المحمّسة الاجزاء ” تاريخ شعوب الشرق الادنى و حضاراته ” في أبرز موسوعة متناسقة عن تطوّر هذا التاريخ .
و قد خصَّ بكتابه الصادر بالعربية : ” لبنان و البلدان المجاورة ” بتحديد واضح لوضع لبنان المميّز بين جيرانه، و بالدور الذي يمثّله على الدوام بفضل موقعه المنفتح على الغرب ، و غير المغلق على الشرق .
و كذلك القول عن كتابه الاخير الصادر قبل وفاته بأسبوعين : ” التحوّلات الكبيرة في تاريخ الشرق الادنى منذ الاسلام ” في تركيز الفكر ، و وضوح العرض ، و استيعاب التطوّر و التحوّل في الاحداث التاريخيّة الكبيرة ، و استخراج النواميس العامة و الثوابت الدائمة .
جواد بولس هو كبيرنا و رفيقنا في أسرة ” الفضول ” .
و قد رأت هذه الاسرة ، منضماً اليها روبير بولس ابنُ شقيق فقيدنا و سيمون عواد ، أن تؤلّف مؤسّسة نعرّفها اليكم و نطلعكم على اهدافها :
١- يكون مقرّ المؤسسة في دير مار جرجس عوكر .
٢- تتألف لجنة دائمة لرعاية شؤون المؤسسة و السعي في تحقيق أهدافها .
٣- أعضاء اللجنة الدائمة : فؤاد افرام البستاني ، روبير بولس ، إدوار حنين ، جورج سكاف ، فاضل سعيد عقل ، الاب منصور لبكي ، شارل مالك ، و سيمون عواد أميناً للسرّ .
٤- من أهداف المؤسسة :
أ‌- إقامة مهرجان تكريمي يليق بدور جواد بولس و عطائه .
ب‌- منح جائزة سنوية قدرها 25 الف ليرة لبنانية لافضل أثر منشور أو عمل فنّي قُدّم خلال السنة في موضوع ثقافي لبناني ، في ميدان الفكر أو الأدب أو الصحافة ، أو الفن ، أو العلم .
– يشمل منح الجائزة الآثار التي تظهر في لبنان المقيم و لبنان المغترب ، و بأية لغة كانت ، شرط أن تكون في موضوع يخدم الثقافة اللبنانية .
– توضيحاً للميادين التي تشملها الجائزة :
في الفكر : تاريخ ، فلسفة ، اقتصاد ، قانون ، سياسة ، ادارة .
في الادب : قصة ، شعر ، تراث ، عادات ، و تقاليد ، سيرة ذاتية ، سيرة وطنية لبطل ، او مآثرة و ملحمة .
في الفن : مسرحية ، مغناة ، معرض ، فن ، نحت ، تصوير مقطوعة موسيقية ، أغنية .
في العلم : نظريّة علمية جديدة ، اختراع علمي ، اكتشاف أثريّ غير معروف ، اكتشاف مخبريّ ، كتبٌ علمية عن عوالم الانسان و الحيوان و النبات في لبنان .
– ترسل الكتب و يبلغ عن الآثار المنوي ترشيحها الى اللجنة المختصة على العنواو التالي :
دير مار جرجس عوكر – مجلة ” الفصول ” لتنظر في الكتب و تحيلها إلى لجان مختصّة .
– يشترط تقديم خمس نسخ من الكتاب المنوي عرضه او الابلاغ عن العمل الفنّي المنويّ تقديمه ن او الاكتشاف المخبري او الاثري ليصارَ الى تكليف لجنة مختصّة تنظر في المقترحات .
– آخر مهلة لتلقي الترشيحات منصف آب من كل سنة .
– يعلن اسم الفائز بالجائزة في 16 ايلول ( سبتمبر ) ، ذكرى وفاة فقيدنا الكبير ، في بيته باهدن الذي قرّرت اسرته بشخص روبير ابن اخيه تحويل قسم منه الى متحف ، فضلاً عن تمويل مشاريع المؤسسة .
ج- الاهتمام بنشر مؤلّفاته الصادرة و المخطوطة في سياق التعريف بفكره التاريخي ، و ترجمتها الى لغات منتشرة في العالم ، مع نقل مجموعته الفرنسية الى العربية .
د- تشجيع البحوث و الاطروحات المعقودة حول تاريخ لبنان و تراثه بمساعدات مالية .
ه- إجراء مباريات بين طلاب لبنان لأفضل دراسة توضع حول مؤلّفات جواد بولس و آرائه اللبنانية .
تلك هي المشاريع التي ننوي القيام بها و هي قليلة على سعة فكر الراحل و أثره . إلا انها تعبير وفاء أول من عائلته بشخص روبير ابن اخيه ، و تعبير محبّة لا يمكن ان يمحوها الموت من أصدقائه الامناء على رسالة فكره.
و إذ نكرر الترحاب بكم ، ندعو الله ان يوفّقنا جميعاً ، كلّ في حقله ، لخدمة لبنان و إنقاذه مما يتخبّط فيه ليستعيد دوره الحضاري الاصيل الذي عاش جواد بولس و أمثاله من الافذاذ الميامين و ماتوا من أجل ان يبقى .
ب- و برًّا بعَهْد . .
• الدكتور فؤاد أفرام البستاني :
في هذه الذكرى الثانية لوداع الفقيد الغالي ، كبيرنا في جلسات الاكاديمية اللبنانية ، و رفيقنا في الجبهة اللبنانية ، و رفيقنا الدائم في نضالنا المستمر من اجل لبنان ، تاريخاً و سياسة بالمعنى الصحيح ، و توخّياً و تحفّزاً للمستقبل ، نقوم اليومَ بمنح جائزة جواد بولس لافضل ما وصل إلينا من آثار كتابية في خلال هذا العام لخدمة لبنان ، و لخدمة تاريخه في المذهب و في المدرسة نفسها التي جعلت الفقيد يفهمُ تاريخ لبنانَ بمعناه الشامل و مراميه الموسوعية ، من أنّه فهمٌ للماضي و اعتبار للحاضر و إعداد للمستقبل ، و هو ما ينتج من تعريف التاريخ بواسع معناه من أنه الخبر عن المجتمع الانساني . و لا يكون مجتمع إنساني إلا في بيئة معروفة مميّزة أولاً بتضاريسها الجغرافية و مناخها ، ثم بمواليدها من جماد و نبات و حيوان ، و من أعراق بشرية متعددة تنسجم في بوتقة واحدة فتنتج على مرّ العصور وحدة في التنوّع و الاختلاف أي اتحاداً في التعددية ، كما كان يردّد ، رحمة الله ، كتابةً و مخاطبة : ” لبنان هو اتحاد طوائف ” و هو ما نعبّر عنه بمصطلحات العصر الدستورية باسم الفدرالية هذا اللبنان الذي أصبح منذ أقدم العصور ، و أوائل المسيحية ملجأ لكل أقليّة تودّ أن تعبد ربّها و تبقى على تقاليدها و تعزّز حضارتها و تراثها براحة و كرامة و طمأنينة متساوية مع سائر الاقليات في موطنها ، هذا اللبنان كان كلّما هبّ عليه إعصار من الخارج يكون المؤرّخون الاصحاء و الدارسون الحنفاء في طليعة من يدافع عنه .
أما و قد فارقنا كبيرنا ، فكانت مؤسسته في طليعة المدافعين على فهم التاريخ الصحيح ، مستندين في ذلك إلى التقاليد و التراث . و لو كان للأقطاب المشتغلين في السياسة عندنا فهمٌ رصين بتاريخ لبنان الصحيح لكانوا أعفوا أنفسهم من صنع تاريخ مشوَّه للبنان غير صحيح . فلنجتهد في بثّ هذه الفكرة فنخففَ من صنع التواريخ الزائفة .
و بعد ، يُسعدني أن أسلم هذه الجائزة لصاحب أفضل أثر كتابي قُدّم إلينا . و قد رأينا بالإجماع في ” مؤسسة جواد بولس ” أن تقدم هذه الجائزة للأستاذ جوزف إليان على مخطوطته ” الوصفات الشعبية في الحشائش اللبنانية ” .
• جوزف إليان :
( . . . ) شاءت المصادفة أن يكون واحد من الشمال هو أولُ منْ ينالُ شرفَ جائزة ” مؤسسة جواد بولس ” ، و جواد بولس هو إبن الشمال ، ابن زغرتا الابية التي أنجبت للبنان من أنجبت من رجال أفذاذ اشتهروا في الدفاع الحقّ عن لبنان الحبيب ، كما اشتهروا في شتى ميادين الحياة .
لقد أوليتموني شرفاً سامياً كونكم قلّدتموني أرفع وسام يمكن أن يفتخر به إنسان مهما بلغت درجة علمه و ثقافته ، كما انكم في الوقت نفسه ، قد أرسيْتُم على عاتقي ثقة كبرى بأهليّتي تنشّطني و تحفزُني للسهر على متابعة بذل الجهود في سبيل توسيع دائرة معلوماتي المتواضعة و تنمية ثقافتي كي أرقى الى المستوى الذي أهلني و يؤهلني لحمل لقب الحائز على جائزة ” مؤسسة جواد بولس ” .
كتب جواد بولس الذي نُحيي ذكراه هذا اليوم ، التاريخ تاركاً وراءه المؤرّخين القدامى ، واضعاً منهجيّةً علميّة جديدة خاصة به، للكتابة التاريخيّة ، اعتمدها في كل ما كتب .
حتى إنّه احتلّ مكانةً عالميّة مرموقة الى جانب كبار المؤرخين أمثال ميشلي و غروسي و موسكاتي و بيريت و بنفيل ، و غيرهم من الائمة في كتابة التاريخ .
تشمل مادة التاريخ عند جواد بولس الاحداث الواقعيّة الماضية التي أمكنه منحها تصديقه الكامل غير المتحفّظ . إنه اعتبر أن ” التاريخ ” علم المجتمعات البشرية ، و فهمها من النواحي الحضارية و السياسيّة و العسكرية و الاجتماعية و الاقتصادية ، و أنَّ هذه المجتمعات مرتبطة ببيئة جغرافية معينة ، تعيش و تتحرك و تتفاعل في زمن معين ، و لها أيضاً لغة معيّنة ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً كما أنّ لهذه المجتمعات ، مهما غُصنا في بحر الزمن ، نظام حكم و قيّمين عليها يشرفون على رعاية شؤونها و سياستها .
من هذه المعطيات أو الثوابت أطلق جواد بولس مقولته ” إن السياسة هي بنت التاريخ ، و التاريخ ابن الجغرافيا و الجغرافيا لا تتغيّر نسبيًّا ” . نعم ، من هذه المقولة انطلق جواد بولس لكتابة التاريخ .و من أقواله : ” المناخ و الارض و التربة و الاغذية ، تعمل كلها معاً لتمارس تأثيراً فيزيائيًّا – نفسانيًّا ، مباشرة حتى منظر البيئة الطبيعي ينعكس بطريقة لا شعورية على طبيعة الانسان . . . فطريقة الحياة التي تفرضها البيئة ، تؤثر في تكوين الطبائع . فالبيئة اذاً تعمل تاريخيًّا ” .
ثم إن الموقع الجغرافي يدعو الجماعات الى التحرّك ، أو على العكس يحدّد لها مكان التحرّك فالبيئة اذن محرك تاريخي ” ، هذا و إنًّ المناخ قد يعزز نشاط الانسان . . . ان الارض تؤثّر على انتاج الثروات و توزيعها و من ثمًّ تكوين طبقات المجتمع و على اتساع المؤسسات الساسية . . . ”
على المؤرّخ ، من الناحية الزمنية ، أن يدرك العالم من الماضي و من خلاله . يستحيل على الانسان استرجاع اللحظة التي مرت ، اذ ما إن تكتمل عناصر الحدث حتى يصبح من الماضي . فالتاريخ يكمن في الماضي ، إنه ذاكرة جماعية . فكل عمل بشري يستند الى حدث الماضي .
هذا ما آمن به و اعتمد جواد بولس في كتابه التاريخ ، فكان أنْ غاص في الماضي و استنطقه بدقة و استوعب أحداثه و أدرك أن المؤرّخ الحقيقي لا يستطيع تتبع الماضي إلا من خلال تجاربه الحاضرة ؟ إن التأويل التاريخي دون عودة الخبرة الحياتية الشخصية و العمل أو التفكير الشخصيّ أمر غير ممكن . إن التاريخ هو تجربةُ مؤرّخ . هنا لا مناص من القول إن جواد بولس قذ اتّبع هذا النهج الذي رسمه لنفسه ، فكان دائماً يستند الى ثقافته و اختباراته و تجاربه الواسعة في حقول المحاماة و السياسة و الاجتماع . كان يجرّب دائماً قبل ان يكتب بحثه التاريخي ، يعاصر الحدث التاريخي و يعيشه و ضميره و فكره ، فيحوله الى حدث معيوش بكل ما لهذه الكلمة من معنى و يضع من ثم صورته التاريخية فيلتقي فيه الماضي بالحاضر . و عندئذ ينتقل الى مكان الحدث و زمانه و ينغمر في البيئة التي انغمر فيها أبطاله أي ينتقل ، و إن بالخيال الى الاجواء الثقافية و السياسية الحدث ، و يعايش الاشخاص و الجماعات الذي صنعوه ، في أعرافهم و تقاليدهم و أساليب تفكيرهم و تصرفهم . و عندئذ فقط يدرك كيف كانوا ينفعلون فيقدمون أو يُحجمون . صحيح أنّ الماضي مضى إنما خلّف وراءه آثاراً و وثائق وشواهدَ ومستندات ومتحجّرات وأدوات تُعيد اليه ، و تضعنا في جوّه ، و عليها نستند في معرفة الحقيقة و تدوين وقائع التاريخ .
و من أقوال هذا المفكر العميقة أن للمؤرخ حاسةً تاريخيةً لا وجود للسياسة بدونها . ” و رجل الدولة الذي يجهلُ التاريخ يشبه طبيباً لم يذهب الى المستشفى و لا الى العيادة و لم يدرس لا الحالات و لا السوابق ” .
لقد تميّز جواد بولس بحاسة تاريخية فريدة ترتكز على ثقافة تاريخية و جغرافية و سياسية و فلسفيّة أصيلة ، و هي التي مكّنته من الابتعاد عن التخيّل و التصوّر و التخمين في كتابة التاريخ ، فانصرف الى الاسلوب التحقيقي الذي يفرضه الحسّ العلمي ، و هكذا توغّل جواد بولس في دراسة الانسان القديم حتى تلمّس منه العمق . فإنّ رجال الماضي عنده يُشبهون رجالَ اليوم ، و لا شيءَ يبدّل طريقة تفكيرهم في الشعور و الارادة . كما أنه درس النفسَ البشرية ، بما فيها من نوازعَ و أهواء و هي مادة التاريخ الحقيقي . و انطلاقاً من هذه المبادئ التي اعتمدها المؤرّخ جواد بولس لم يكتف بتدوين الاحداث و الوقائع التاريخية و بيان أسبابها و نتائجها و إمكانية حدوثها مرة أخرى ، بل انطلق منها بعقله النيّر ، و حاسته التاريخية و ثاقب نظرته و روحه العلمية ، الى إنارة الحاضر بها ، و إعطاء المستقبل طرائق الاستشراف و الادراك و الافادة من الايجابيات التاريخية ، و عدم الاخذ بالسلبيات و تحاشي الاخطاء .
بهذه الروح . و على أساس هذه المبادئ كتب جواد بولس التاريخ و عالجَه كعلم و فلسفة ، فكان مدرسة السياسة الصحيحة التي على سياسيي الغد و مؤرخيه أن يتخرجوا منها .
و قد أتحف العربَ و العالمَ الغربيّ بموسوعته التاريخية القيمة الواقعة في خمسة أجزاء ” شعوب الشرق الادنى” و قد كتبها باللغة الفرنسيّة ، و مؤلّفيه : ” لبنان و البلدان المجاورة ”
و” التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الادنى منذ الاسلام ” . الى جانب الابحاث و المحاضرات و المقالات و الدراسات التي كان المؤرّخون و النقّاد يستقبلونها بالاطراء اللائق بها .
هذا ، و قد عرضَ جواد بولس الاحداث بصفاء و تسلسل و وضوح ، و عالج ما يدور حولها من شؤون بموضوعيّة و روح علمية ، و سهرَ على أن تكون لغتُه في كتاباته سهلةً ممتنعة تسيلُ كالماء النمير ، مما يجعل القارئ يُكبّ عليها و يَردُها و يعبُّ منها فيدركُ الحدثَ بوضوح فينحفرُ في ذاكرته .
ها إني قلتُ شيئاً يسيراً ممّا كان يتوجب أن أقول في جواد بولس الذي لن تفيه حقّه مقالةٌ أو محاضرة أو كتاب .
هذه هي بعضُ ملامح جواد بولس المؤرخ . إنه دائماً و سيبقى أبداً أكبر من الكلنة التي تُقال فيه . ” فقد غدا رمزاً من رموز هذه الامّة العظيمة ” .

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *