جواد بولس : حق وموقف
قبل 13 عاما غاب جواد بولس , مؤلف ” شعوب الشرق الادنى وحضاراتها ” و ” لبنان والبلدان المجاورة ” و ” التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الادنى منذ الاسلام ” رحل بعدها خبأ العمر في كلمات , في كتاب , في مواقف قد نوافقه عليها وقد نعارضه , لكننا لا نستطيع الا ان نقدّر صاحبها لوضوح فكره , لجرأته , لالتزامه كل فكرة يطلقها او ينادي بها مهما غلت التضحيات … وكثرت الاغراءات !
***
في 18 آذار 1943 عيّن جواد بولس , بقرار من المفوض السامي الفرنسي , وزيرا للخارجية وللاشغال العامة وللصحة في حكومة الرئيس ايوب تابت , رئيس الدولة آنذاك . وانيطت بهذه الحكومة مهمة اعادة العمل بالدستور واجراء انتخابات نيابية عامة تشكل تمهيدا لمرحلة الاستقلال . لكن لم تكد هذه الحكومة تشرع في عملها وتتوصل الى وضع مشروع يتعلق بعدد النواب وتوزيعهم الطائفي , حتى وقع خلاف على توزيع المقاعد بين المسيحيين والمسلمين . وكان موقف جواد جذريا في الصدد هذا . اذ رفض ان يدخل اي تعديل على مشروع القانون . فتدخل عندها المفوض السامي الانكليزي سبينكس وزاره مرات عدة طالبا اليه تغيير موقفه والقبول بالتعديل مؤكدا له ان هذا الامر يخدمه , خصوصا ان اسمه مطروح لرئاسة الجمهورية . لكن بولس رفض العرض مما ادى الى استقالة الحكومة التي كان عضوا فيها والى خسارته رئاسة الجمهورية .
***
جواد بولس رجل مبدأ لا يجابي ولا يهاود . بدأ حياته محاميا , ثم عمل في السياسة , واخيرا انتقل الى التاريخ . وفي الحالات كلها ظلّ هو هو . ثلاثة اقانيم لجوهر واحد : حق يعلو ولا يعلى عليه .
وانطلاقا من صراحته ومن دفاعه المستميت عما يراه حقا رفض صيغة 1943 واعتبرها صيغة نفاق لا وفاق , وطعنة دامية في صدر لبنان . وهو عبر مرارا عن سخطه على هذا الميثاق , واعتبره تسوية هشّة , كاذبة , تسقط عند اول هبّة ريح . وكم ردد بعد اندلاع الحوادث في لبنان : ” كنا على حق اميل اده وانا وكان بشارة الخوري وحميد فرنجيه على خطأ . الاستقلال ليس كلمات , بل هو عمل وامكان بقاء ” .
ولعل سخطه على ميثاق 1943 يعود في الدرجة الاولى الى ان هذا الميثاق لم يكن صريحا في شأن هوية لبنان, بل قدم تسوية سياسية للموضوع تنافي الجغرافيا والتاريخ , اي المنطق العلمي الواضح المجرد .
فلبنان بالنسبة الى جواد بولس , كتكوين سياسي وقومي معاصر , هو وليد الجغرافيا والتاريخ , وهو محصلة تطور الشعوب التي عاشت على هذه الارض منذ زمن ما قبل التاريخ . وعنده ان ارض لبنان تؤلف فردية جغرافية طبيعية عملت , من دون انقطاع وطوال ألوف الاعوام , على جعله كيانا جماعيا متميزا , عماده مجتمع قومي وطني متجانس الى حدّ ما .
والقومية اللبنانية عند جواد بولس لا تتأتّى من التركيب العرقي , كما انها غير مبنية على الدين . ذاك ان البشر الذين يسكنون لبنان شكلوا مزيجا عرقيا” ونفسيا” مركبا” , كما ان تعدد التجمعات الطائفية هو من ثوابت التاريخ اللبناني . لذا فان الوحدة اللبنانية , كوحدة معظم البلدان المتطورة في العالم الحديث وخصوصا الوحدة السويسرية , متأتية من تكيّف الجماعات اللبنانية المختلفة مع الارض والمناخ ووضع البلاد الجغرافي . اي ان مفهوم الارض هو في اساس الوحدة القومية اللبنانية , ويتيح لجميع اللبنانيين ان يشعروا انهم ابناء ارض واحدة متخطين بذلك اختلاف العنصر والدين .
وانطلاقاً من هذه النظرة الجغرافية الى الكيان اللبناني , لاحظ جواد بولس ان للبنان بفضل موقعه واجهتين تجعلان منه بلدا” بريا” وبحريا” , شرقيا” ومتوسطيا” في آن واحد , وهو ما اكسبه شخصية مميزة في هذه المنطقة من العالم .
فكون لبنان بلدا بريا قاريا ملتحما جغرافيا بالشرق الآسيوي جعله مشدودا الى الشرق بروابط طبيعية لا يمكن تحطيمها . كما ان انفتاحه على البحر الازرق عبر واجهته المتوسطية جعله يتطلع الى الافق البعيد . الى ما وراء البحار , وجعله ينتمي الى مجموعة حضارات حوض البحر الابيض المتوسط . وهذه الحضارات التي ساهم لبنان بطريقة مجدية في تطويرها عبر الاف السنين هي التي أسست للحضارات الغربية المعروفة في العالم اليوم.
وعليه , توصل بولس الى خلاصة مفادها ان لبنان ليس بلدا بحريا متوسطيا تماما , كما انه ليس قاريا” شرقيا” كاملا” . بل انه صاحب شخصية مزدوجة . فهو قادر على مخالطة البلدان الغربية بشكل لا مثيل له لدى الشعوب الشرقية كلها , كما انه قادر على مخالطة الشعوب الشرقية , وخصوصا العربية منها , بمقدرة تفوق مقدرة شعوب حوض البحر المتوسط والغرب كلها . وهكذا فان لبنان ليس ذا وجه عربي , كما قال الميثاق الوطني , بل انه صاحب شخصية خاصة . انه مجموع متناقض لكنه متماسك يتجه , في الوقت عينه , نحو القارة ونحو البحر, نحو الماضي كما نحو المستقبل .
ولان لبنان كيان خاص مميّز رفض جواد بولس اذابته في المحيط العربي الواسع , او في اي شكل من اشكال الوحدة مع سوريا . وطلب الى ” عباقرة ” السياسة عندنا ان يتصرفوا في ضوء المعطى التاريخي – الجغرافي لا في ضوء مصالحهم الضيقة الصغيرة . لكن … ” على من تقرأ مزاميرك يا داود ؟ ” .
***
في الزمن الرمادي والوجوه الصفر الباهتة والجباه المعفرة بالتراب , نتطلع الى امثال جواد بولس بين المسؤولين فلا نجد . بل نجد جبناء , خنوعين , خاضعين , مستسلمين , زحفطونيين , يتسابقون على الامجاد الباطلة للسلطة تسابق الكلاب على عظمة . ونجد الذين لا يتخذون موقفا ولو تعلق الامر بكرامتهم وكرامة وطنهم وشعبهم .
لذا نتذكر جواد بولس وامثاله . ونتذكر الفيلسوف الاغريقي العظيم افلاطون الذي قال ذات يوم : ” لن يتخطّى الجنس البشري متاعبه الا اذا استولى المشتغلون اشتغالا” حقيقيا بالفلسفة على السلطان في المدن فلاسفة حقيقيين” . وهو يقصد بالفلاسفة رجال العلم والمعرفة , الذين يملكون في ما يملكون من معارف معرفة في التاريخ والجغرافيا وتطور الشعوب .
فهل كتب على لبنان ان يظل دائما” تحت نير ” اشباه رجال ” بعيدين عن معرفة تاريخ وطنهم وتراثه ودوره , بعدهم عن الشعور بالكرامة والحرية ؟
وليد عبّود