المؤرخ الاهدني جواد بولس المكاري :
تواصل فكر لرجل المعرفة

في ذاكرة ايلول ذكرى لا تشيخ كما الاريج وعبق البخور ..

موعد مع التاريخ والرؤيا في السابع عشر منه , ذكرى رحيل المؤرخ الاهدني جواد بولس المكاري, قل تواصل معرفة لرجل المعرفة ومناخ فكر لرجل اطلق الفكر عاليا وسما ليرتفع عن المكاسب الشخصية بعبقريته وصفاوة ذهنه وايمانه الصادق لوطنه الام ..

الشيخ جواد خلص للصدق مفتشا عن الجذور وباحثا في عصب الازمات عن الحلول . قليل قيل من كثير عنه , هكذا هم عظماؤنا الذين ظلوا يشقون طريق الوطن الى الخلاص بقدراتهم واعمالهم ومواقفهم ويسطرون امجاده بحروف من ذهب.

من نبع معرفته تستقي ما يشبع النفس ويطفئ الظما وتغرف اكثر لتجد نفسك ملتزما حب الوطن حتى الرمق الاخير .

ففي عالم جواد بولس المعجوق بالبصمات التاريخية والمواقف الشجاعة والرؤيا السياسية الوطنية الجامعة تستشرف صورة غدك وتحصد القدرة على المضي واثقا الى الرقي والتطور .

فمن وعيه الحقيقة التاريخية الممتدة على مر خمسة آلاف سنة من الحضارة الى واقعنا اليوم , تثق انك في بلد لا يموت مهما عظمت الشدائد وتواكبت المحن : ” وطنا كلبنان ولد مع التاريخ والمدنية من خمسة آلاف سنة وواكبهما واسهم في انمائهما وتطويرهما على ممر العصور محافظا على شخصيته وخصائصه . هو تكوين طبيعي متين يحق لابنائه المعاصرين ان يثقوا به وبقدرته على البقاء وان يعتزوا بالانتساب اليه ” .

هكذا اختصر شيخ المعرفة والتاريخ لبنانه واعطى النموذج الصادق عليه ضمن مؤلفاته وابحاثه ومحاضراته العديدة في كثير من البلدان الاجنبية والعربية . وقد شرح مطولا المسببات والعوامل التي من شأنها ان تؤثر في المجتمع اللبناني وفي التعاطي مع الاحداث من خلال رؤيا سياسية واضحة متمدنة وحضارية . لقد كان نهج الشيخ جواد بولس المكاري نهجا علميا متقدما يطرح المشكلات قارئا التاريخ وتحولاته ضمن فلسفة ترينا مدى تاثير الجغرافيا النسبي لا المطلق في مسار الشعوب . ” ان السياسة هي بنت التاريخ . والتاريخ ابن الجغرافيا , والجغرافيا لا تتغير الا نسبيا ” .

هكذا ومن عبق الماضي وغابر الاحداث يرى مؤرخنا مقتنعا ان : ” سياسة الماضي وسياسة الحاضر هي تاريخ المستقبل .. فالتاريخ سيظل المرشد الاكبر للشعوب ولزعمائها السياسيين ” .

لقد اعتكف جوادنا عن ممارسة السياسة متوجها الى التنقيب والتحليل في بحر التاريخ الواسع والشيق لعدم اقتناعه بجدية الحكام واملاكهم القرارات الوطنية التي تجنب البلاد الكثير من الويلات التي نبه اليها في كثير من الظروف , وقد اثر لنفسه الصبر والتجلد بعيدا عن الغوغائية والتزلف والالتزام سوى بقناعاته : ” اني اكثر تعلقا بالابحاث التاريخية . فكان ان انقطعت عن المحاماة والاعمال الاخرى , وتفرغت للبحث والتنقيب في اعرق حضارة عرفها العالم ” .

مع ان مؤرخنا كان ليحتل ارفع المراكز في الدولة , لكنه ابى ان يكون شاهد زور على النزاعات العائلية والمهاترات السياسية التي ظلت تهدد كيان الوطن والشعب الى ان صار الانفجار الاول في 1958 والثاني 1975 . وقد رأى أن السياسة الداخلية كانت ولا تزال مرتهنة بتجاذب لبعض السياسات الخارجية ولم تمارس الديمقراطية الصحيحة في الحكم وفي الدوائر الرسمية. وقد شرح ذلك : ” اعتقد ان في الديموقراطية الصحيحة المنقذ الاول لتخلفنا السياسي .. فعندما نوفر للجماهير معطيات الانتخابات الحرة النزيهة لابد ان هذه الجماهير ستنتخب رجال الكفاءة والاخلاص .. في الوقت الذي تنبذ فيه الافكار الدخيلة على مجتمعاتنا ” .

تتسلسل الاحداث ونحن نعاني ما نعانيه , وتمر التجارب والتاريخ يظل شاهدا على تلك الاحداث الذي اشار ونبه اليها نابغتنا منذ ما يقارب النصف قرن . فالقرارات والخيارات ان لم يكن اصحابها من ذوي الكفاءات العالية وعلى قدر من المسؤولية الوطنية فهي تضر بالمصلحة العامة وتؤثر سلبا على الشعب وتحد من طموحاته . فما نفع الديمقراطية ونحن نمارس عكسها ونغلب المصلحة الشخصية على مصلحة الوطن : ” والدولة باعتقادي مؤسسة خاسرة عندما تتعاطى التجارة ” .

لقد اختزن فكر جواد بولس التجارب السياسية المتتابعة وقد اوجد مدرسة جديدة لها مفاهيمها ومصطلحاتها وقد اوجد مدرسة جديدة لها مفاهيمها ومصطلحاتها ضمن مقاييس واعتبارات زمنية تتدارك المواقف والحج للوصول الى قناعات ثابتة وراسخة …

لقد كتب الشيخ جواد عن الحالات والسوابق عند الشعوب كما وضع كتابا عن تاريخ لبنان بعنوان ( لبنان والبلدان المجاورة ) وهو تاريخ مقارن للبنان وسوريا وفلسطين منذ الاصول .

وآخر ( التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الادنى منذ الاسلام ) وقد كان له صدى واسع في المجالات والمنتديات الثقافية والسياسية . حيث انه اعطى اثني عشر تحولا شهدها تاريخ الشرق الادنى منذ الاسلام حتى 1918 . وكانت هذه التحولات تدخل المسرح التاريخي بفعل حدث او شخصية تاريخية . وقد ألّف موسوعته الشهيرة ( تاريخ شعوب الشرق الادنى وحضاراته ) في اللغة الفرنسية وقد قدم لها المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي . وبعد وفاته ترجمها الاديب سيمون عواد الى العربية . وتتألف من خمسة اجزاء .

لقد ابى ان يكون مؤرخنا هامشيا في حياته وكذا في مماته .

فقد دافع عن لبنانه من اعلى المنابر وقد جند نفسه باحثا وناقدا واضعا اسسا مستقبلية لمعالم تكوّنت بفعل الموقع الجغرافي المميّز وبفعل المؤثرات التاريخية . وقد ترك وراءه خلاصة اعماله وانجازاته حتى لتكاد تحسبه رؤيويا راصدا كل المعطيات والتفاصيل قبل حدوثها .

وبذلك مع عالم جواد بولس المكاري تلتمس لمعرفة اوسع وفهم اكبر لتاريخ حضاري وحضارة تاريخية عرفها لبنان منذ الاصول .

اسعد بدوي المكاري

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *