جواد بولس :

رجل … وتاريخ

بقلم زهير مارديني

ما لك الا ان ترمي عينك عليه لتعرف ان جواد بولس مولف كتب التاريخ باللغتين العربية والفرنسية، الذي يحمل على كاهليه 73 عاما ( جالسة ) ما عرفت الانحناء، والذي تلقى علومه الثانوية في مدرسة عينطورة، والتحق بالحقوق في الكلية الفرنسية في بيروت، ونخرج محاميا، ومارس المحاماة وهو ابن زغرتا في طرابلس، وانتخب مرتين، في 1933، 1937 نقيبا للمحامين، وانتخب عام 1938 نائبا في المجلس النياني ( وما عادها ) واختير وزيرا في حكومة العهد الثلاثي المؤلف منه ومن ايوب ثابت وخالد شهاب ( وما عادها ) ايضا .. وكاد ان يصبح رئيسا للجمهورية لو دخل سوق نخاسة السياسة ..

ما لك الا ان ترمي عينك عليه لتعرف ان الرجل لم يزهد بالمناصب وينقطع لفهم التاريخ، ومن ثم كتابته الا بعد ان قنع بأن كل عمل وخاصة العمل السياسي يبدأ اولا بفهم التاريخ، وبعدها يستطيع صاحبه ان ينجح .. لهذا فان جواد بولس من الصفوة اللبنانية الممتازة المنتقاة ..

مؤرخ حقيقي يستخلص ويكتب عن فهم، فيبدع، وفي بادرة شهامة وترفع واثقة من تافه، وكبرياء متواضعة، يحول الكلام من صنيع الى بدع وجود، فيجعل من التاريخ الاثري ” حياة كاملة ” .. حين تقع عينك عليه _ سيان شخصه او كتابته _ تشعر انك امام رجل ..

من غيره تطلب البراهين، اما جواد بولس فسيرة حياته، وانفته، وكبرياءه الحلوة، لا تحيجنا الى برهان .. تبدو عليه سيماء الانتصار، اوقف ام سار _ اكتب في التاريخ ام الاجتماع .. اساق المناقشة الفكرية معك ام نادمك وداعبك متندرا .. فلكل ” حركة ” من حركاته معنى محقق .. معنى لتعبير عن ذات النفس، كما يعبر التاريخ الحديث عن التاريخ القديم (على حد قوله)..

اسألوا عنه تلك الصفوة المختارة من متمردي الوطن العربي التي تتحلق حوله في ندوة شيخ المجاهدين محمد علي الطاهر، هذه الصفوة التي تركت اوطانها لانها تحلم ان تراها فوق انتقاد .. والتي لم تستسلم لسكاكين الجزارين، ولا تطيع الطغاة مهما بلغوا من عسف وصلف .. اسألوا عنه ابالسة السياسة وشياطين الفكر كيف يعترفون عن طواعية بانهم يأتون الى ” الاكاديمية ” ليصغوا اليه ( الاكاديمية اسم يطلقه شيخ المجاهدين على ندوته مساء الاثنين ) !

  • لبنان والبلدان المجاورة

حين امسكت بكتابه الاخير ” لبنان و البلدان المجاورة ” ما كنت اتصور انني سأغرق بين صفحاته وانسى كل ما قرأته في الماضي، وهو كثير ، من تاريخ لبنان والبلدان العربية .. لقد فتح الكتاب امامي آفاق المعرفة فاذا بقصة البشر في هذه المنطقة من العالم الواسع تتشابه في تاريخها القديم والحديث، من 2400 سنة قبل الميلاد الى عام 1973 ..

وتمر امامي و انا غارق في ابواب الكتاب، والتي تروي لي تاريخ البشر الذين عاشوا على هذه الارض، واخبار الذاهبين الاولين وقصص الحضارات، واحوال الذين تركوا ..

في الدنيا دويا كأنما

تداول سمع المرء انمله العشر

فما رأيت فيما قرأت من التاريخ الذي كتبه جواد بولس، سوى صورة واحدة مكرورة :

صورة هذا الحيوان الذي وقف على ساقين ولكن ما انفكت عيناه تبحثان عن الطعام في الارض، والجاه الكاذب، ويداه تعملان على تكويم التراب اكواما يدعوها مدنا ! .. وعواصم و .. حدودا، سموها هم وآباؤهم وفصلوها وفق مصالحهم !. وليس بعد ذلك شيء سوى بعض اللغو الذي يدعونه فكرا تقدميا تارة، ورجعيا اخرى، وعقائد وعلما ..

فما برح الناس الذين عاشوا ويعيشون على هذه الارض، وما زالوا وما انفكوا وما برحوا .. يجترون افكارهم المنتزعة من غرورهم .. اني لا اجد كبير فرق بين المشايخ الذين سادوا في الزمن الغابر .. وبين كمال جنبلاط، وكميل شمعون، وريمون اده، ورشيد كرامي .

ولنزحف قليلا نحو التاريخ الحديث لكي لا نستشهد بالتاريخ القديم .. فأي فرق نجده بين ما فعله الامير فخرالدين عام 1608، والذي رواه لنا المؤلف في صفحة 354 وبين كميل شمعون عام 1958 .

” … في عام 1608، تم توقيع اتفاق سري بين فخرالدين وممثلين لفردينان الاول ( امير فلورنسا القوي ) جاء فيه : ان الفريقين يلتزمان بالتحالف ضد العثمانيين، فوعد الامير بالسماح للاسطول التوسكاني بالدخول الى مرافئه وبتزويد هذا الاسطول .. ووعد مبعوثو فردينان بمساعدة فخرالدين على تحصين البلاد، وبامداده بالذخائر وبعمال لصناعة المدافع ” ..

أي فرق بين تصرف الامير فخرالدين وتصرف الرئيس الاسبق كميل شمعون عام 1958 حين دعا الاسطول الاميركي الى لبنان، ودخل جنود الاسطول الاراضي اللبنانية كحلفاء .. ليوقف النفوذ الجديد الزاحف من البلد المجاور .. وماذا افاد سكان هذه المنطقة من انهار الدماء التي أراقتها آلاف الاجيال في الحروب القديمة والثورات الحديثة، وهل منعهم ذلك من أن تعود فتحكم في خلافاتها ذوي الخوذ الفولاذية وذوي النجوم والاشرطة على الاكتاف ؟

واخيرا من يستطيع ان يؤكد، ان انسان هذا القرن الذي تعلم، هو غير الانسان الذي كان يتصرف بدون علم ؟

قد يكون هناك تغير في عيش السوري الذي كان يعيش على قمح حوران والجزيرة، فاذا به يعيش على قمح اوستراليا، واللبناني الذي كان ينتظر الماشية من سوريا فاذا به يستوردها من تركيا .. الاختراع الوحيد الذي جاء به الانسان المتعلم هو القطيعة التي لم يتعرف عليها الانسان القديم !

وكما ان الانسان الذي عاش قديما في هذه المنطقة لم يقرأ التاريخ، فكذلك الانسان الذي يعيش اليوم لا يقرأه ايضا، اما اصحاب اليسار فمن يضمن لهم ان ما يفعلونه ليس سيرا الى اليمين، أو ليست تصرفاتهم احيانا بمثابة دوران لولبي ابله في فنجان ؟..

لهذا فقارئ كتاب ” لبنان والبلدان المجاورة ” يبتسم كلما سمع بعقيدة من العقائد وهي تحاول ان تأخذ الشكل المهيمن، وتطمح لان تعتبر نفسها العقيدة النهائية، او رأيت حقيقة تريد ان تقنع الناس ان ليس بعدها من حقيقة ..

ان التاريخ الذي رواه لنا جواد بولس في مؤلفه يغص بالمقابر التي ضمت جثث العقائد والاعمال والرجال ممن انتهت اليهم الدنيا والقمم، وليس لهم اليوم في مقبرة جواد بولس سوى اسطر كشاهدة القبر عليها الاسم والعمر وطلب الغفران ..

  • شهادة ميخائيل نعيمة بالكتاب

يقول ميخائيل نعيمة في مقدمة الكتلب :

” … وجواد بولس , صاحب هذا الكتاب، هو من أساطين التاريخ في شرقنا العربي، وله فيه جولات واسعة وجريئة , ليس هذا الكتاب الا واحدة منها .. فالتاريخ عنده هو اكثر بكثير من سرد أحداث وقعت هنا وهنالك . انه علم يجري على سنن قلما تتبدل على كر السنين .. فلكل شعب من شعوب الارض ميزاته الخاصة التي ترتبط اوثق الارتباط بوضعه الجغرافي .. وهذا الوضع هو الذي يحدد شخصيته المادية والمعنوية والذي يجعله عرضة دائمة لشتى التيارات البشرية التي تأتيه من الشرق والغرب , او من الشمال والجنوب .

ولبنان بجباله القائمة بين الصحراء والبحر , وبروعة تكوينه واعتدال مناخه ما شذ يوما عن القاعدة . ولانه مميز بوجهه الطبيعي من وجوه جاراته فشعبه كذلك مميز بتركيبه الروحي والاجتماعي من الشعوب المجاورة له . وتاريخه من وجوه كثيرة هم غير تاريخها ..

لقد اسدى جواد بولس بكتابه هذا خدمة جلى ليس للبنان بل للتاريخ كذلك ” ..

  • ماذا يقول المؤلف

في مقدمة المؤلف عبارات موجزة توصل السهم الى الهدف فتبدو لك الكلمات وكأنها في ايدي الناس, ولكنها سجية اصيلة في شخصية المؤرخ الاديب .. فعنده جرأة غريبة في عصرنا المضطرب الذي صار الناس فيه مقتنعين بانهم متساوون ( حتى ان كل واحد يستحي بحقيقته لينسجم او يتساوى وغيره ) عنده الجرأة لان يسفر عن الحقيقة ويسير بها جهارا , ويفرضها فرضا . واكثر من ذلك فجواد بولس لا يستحي ان يكون محافظا , يضبط نفسه على القيم الراسخة , في فترة تبلبلت فيها الرؤوس , حتى رأت ان تنقض القيم بحجة اعادة تقييمها .. يقول جواد بولس في المقدمة :

” .. وهكذا , فالقوانين التي يضعها البشر والاجراءات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية التي يتخذونها , يجب لكي تنجح وتدوم _ ان تتلاءم مع البيئة وان تراعي الميول الطبيعية للمجتمع الذي تطبق فيه وحدود هذه الميول . اما التغييرات الاجتماعية المتخذة بقرارات , والتي غالبا ما تصدر عن ساسة متسلطين , قصيري النظر , فدائما تنتهي بكوارث .. فالامة _ لا تتبدل بقوانين _ لان تقدمها ينتج عن تطور النفوس ..

لذلك فمن واجبنا ان نبحث في ماضي الشعوب كيف تصرفت تلك الشعوب في ظروف مماثلة , وليس في ظروف الحياة الجارية . فعندما يهتز بعمق تاريخ شعب , تظهر الطبائع الاثنية بما فيها من امكانات حقيقية في الفعل وردة الفعل .. لكن , لسوء الحظ , وبالرغم من الحقيقة في السياسة , كما في التاريخ ( هي حقيقة واقعية وليست حقيقة عقلانية ) فاننا كثيرا ما نرى الواقع يترك مكانه للوهم المولد للمذاهب والايديولوجيات والغيبيات المختلفة التي تتسبب بأضرار كبيرة للعالم لانها تقوم على تجريديات او افكار عاطفية لا تمت بصلة الى الواقع الايجابي..”

على هذا النحو يعرض جواد بولس افكاره . وهو يعرف ان يمتلك اعصابه .. فهو ارستقراطي , أي من الاصلاء الذين لا يعجبون ولا يباهون بغناهم , والذين من ادبهم , وهو , هو السبب الذي يصل بينهم وبين الناس , يقيمون حاجزا ايضا بينهم وبين الناس .. ففي الفكر , كما في المال , حداثة نعمة .. بل انها في الفكر لشر مما هي في المال .. اغنى المفكرين انتاجا وافكارا انما يعرضون عليك نعمتهم بتعال , اما جواد بولس فيطرح الفكرة الصافية كما هي ويترك الاستنتاج للقارئ …

ولا يحتاج المؤلف لان يفتح خزائنه ليقنعك بغناه .. ولا يهمه ان تقتنع … ولكن من مجرد قراءته تدرك انه الغني بفكره , ولا يفلش كنوزه الفكرية ففكره مبادلة العقل والقلب في فعل واحد , لانه ليس يواري كنوزه بخلا او حياء او استكبارا .. بل تأدبا وتلملما ثم احتراما للقيم ..

  • وقفة على حافة الكتاب

ثم هناك حقيقة يخرج منها القارئ للكتاب وهي ان المتقدمين الصفوف لقيادة هذا الشعب الذي يعيش على الارض السورية اللبنانية قد اضاعوا حس التفريق بين الحق والباطل , بين الخير والشر , بين الجمال والقبح لكثرة ما ارتسم أمامهم من دروب متشابكة .. أتراهم بلهاء يتصنعون الوعي والعقل أم يريدون ان يعيشوا جنونهم ؟

لسنا ندري ولكننا نعتقد انا لسنا بحاجة لعيون كثيرة كيما نرى ان هؤلاء يهملون مشاكل بلادهم الاساسية ويغرقون في تفاهات الخلافات السياسية كما يهدئ الملك لير في مسرحية شكسبير الشهيرة جنونه في العاصفة ..

  • الجبل اللبناني ملجأ الاحرار

في صفحة 348 يقول المؤلف :

” … كان الجبل يفتح صدره لكل من يثور على ظلم الباشوات , وقد اصبح الملجأ الاخير للاستقلال السوري ” ..

بهذه العبارة ربط جواد بولس بين الماضي و الحاضر .. لقد وصف الحياة التي نعيشها اليوم وكأنه يعود بنا الى الوراء ليذكرنا بأن الجيل الذي عاش ما بين الحربين وبعدهما , قد ولد ودخان المعارك البعيدة في تاريخه يبعث في صدوره مثل سعال الموت البطيء , فلما شب وبدأ يجوس من خلال الحياة , مادت به الارض من جديد , فورث من عصره المضطرب شعورا بعدم الاستقرار , هو الى الاستهتار اقرب منه الى السآمة الرومانطيقية , وتجمعت فيه خلاصة حالات التاريخ المعقدة , فحمل غرائزه ولا يعرف ماذا يصنع بها .. وفي صفحة 344 يقول جواد بولس :

” … وفي عام 1517 , وبعد انتصار آخر على المماليك بالقرب من القاهرة , استسلمت مصر للغالب , فأدت له مدن الاسلام الطاعة واعلن نفسه ” خليفة رسول , وامير للمؤمنين ” .. ومما ساعد في الانتصار العثماني , فجعله يتم بسرعة , انضمام معظم النواب اي الحكام المماليك الى الغالب .. أما السوريون والمصريون , فكانوا يتفرجون غير مبالين بالمعركة التي كانوا رهانا لها .. وكما كانوا _ في الماضي _ استقبلوا العرب , لانهم سئموا الاغريق .. كذلك شهدوا قدوم العثمانيين بدون انزعاج , لانهم لم تبق لهم قدرة على تحمل المماليك , ونذكر هنا ان منذ زوال دولة الخلفاء الامويين في دمشق ( سنة 750 ) كانت جميع العهود التي تداولت السيطرة على البلاد السورية _ والسلجوقيين , والطورانيين والاخشيديين والفاطميين والايوبيين والمماليك , كانت كما راينا , قد دأبت على جعل كابوسها ثقيلا على الشعوب المحلية .. وبما ان هذه باتت غير مبالية بالتغييرات السياسية , بدت وكأنها مستسلمة , خاضعة للطغيان .. فقد تلاشت الحمية منذ زمن بعيد , واصبحت النفوس في يأس تام ..

لقد خضعت اذن بلدان شرقي المتوسط بهدوء الى سيد غريب جديد .. ” .

اليس في عبارات المؤلف عن التاريخ القديم ما يجعلها تطابق التاريخ الحديث , بالاذن من كتاب الايديولوجيات ؟

ويحدثنا جواد بولس عن تاريخ الموارنة والدروز والمتاولة والنزاعات التي نشبت بينهم عبر التاريخ, والاوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة .. والقيادات التي ظهرت ثم انقرضت .. يروي كل هذا وكأنه يؤرخ للمرحلة الحاضرة , فنفس الاخطاء تتكرر ..

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *