جواد بولس في ” تاريخ لبنان ” رجل دولة يعرّف هوية وطنه

بقلم يوسف الحوراني

اسم الكاتب الذي صدر للاستاذ جواد بولس باللغة العربية هو ” تاريخ لبنان ” . وكان الاولى ان يسمى لبنان بين جيرانه، او لبنان في اطاره التاريخي والجغرافي .

فالاستاذ بولس الذي كتب ” شعوب الشرق الادنى وحضاراته ” في خمسة مجلدات باللغة الفرنسية هو اولى الناس بتحديد الوجود اللبناني الحضاري بين هذه الحضارات . ولهذا جاء كتابه جصيلة دراسة تاريخية واسعة لمحيط لبنان الخارجي قبل التركيز على التعرف الداخلي الذي يصبح لديه عملية استكشاف للذات .

قدم للكتاب الاستاذ مخايل نعيمه ونشرته دار النهار للنشر في 987 صفحة .

حدد المؤلف غاية الكتاب في توطئه فقال : ” انها .. المساعدة على فهم افضل للبنانا المعاصر، بما له من مشاكل معقدة، وشخصية اصيلة، ورسالة خاصة، ودور وساطة بين العالم القاري الشرقي وعالم البحر المتوسطي الغربي، وذلك بنظرة استشراق الى مسيرة تطور هذا البلد منذ اقدم العصور” .

للمؤلف نظرية خاصة في فهم التاريخ , اذ هو لديه : البحث عن الاسباب، واكتشاف السنن التي تسيرها وتوجه مجراها . ولهذا فان دراسته لتاريخ لبنان كانت دراسة منهجية تشدد على المبادئ والقوانين التي تحكم الحوادث اكثر من تشديدها على دقائق الحوادث التي قد تخلف فيها الروايات احيانا . وهذا هو نهج فلسفة التاريخ التي طغت في اوساط مفكري هذا القرن .

” التاريخ خزان كبير للتجارب المتراكمة، ولانه كذلك فهو مدرسة سياسية حقيقية، لانه يشركنا في معرفة اختبارية للانسانية تكون اشمل واكثر تنوعا من ملاحظتنا الشخصية . ووحدها المعرفة التاريخية هي التي تقودنا لنكتشف في الاحداث الحالية، الاكثر تميزا وتعقيدا في ظاهرها، سر تركيبها وتجاوبها معا ” _ ص 15 _

واذ يرى الستاذ بولس ان مؤثرات التاريخ هي البيئة الطبيعية، والطبائع الاثنية _ السلالية _ ومقتضيات الصراع من اجل الوجود يشير الى ان عند حدوث معضلة في تاريخ شعب من الشعوب يكون ” من واجبنا ان نبحث في ماضي الشعوب كيف تصرفت تلك الشعوب في ظروف مماثلة، وليس في ظروف الحياة الجارية . فعندما يهتز بعمق تاريخ شعب، تظهر الطبائع الاثنية بما فيها من امكانات حقبقبة في العمل وردة الفعل ” _ ص 16 _

وتتلخص نظرية المؤلف بقوله : ” الطبائع النفسية للمجتمعات لم تبدل قط منذ ما قبل التاريخ .. ان جهل هذه الحقائق الرئيسية يزجنا في حسابات خاطئة … ان خرق سنن التاريخ لا يبقى دون عقاب . وان كل عمل انساني مخالف لهذه السنن، لابد وان ينقلب او يتحطم عاجلا ام اجلا ” _ ص 16 _

وهكذا نجده يؤمن بقواعد وثوابت للتاريخ كايمان علماء الفيزياء او الرياضيات بقواعدهم .

يحدد المؤلف لبنان بانه ” امة جغرافية ” … شخصية جغرافية , تعيش في داخلها , منذ ازمنة بعيدة , مجموعة انسانية _ شعب امة _ تكيفت طبائعها الخاصة الاساسية , او القومية الطبيعية , وبخاصة النفسية , وتحددت بثبات تقريبا، وفق الشروط الطبيعية الاقليمية والوراثية _ ص 19 _

كما يرى انه لا يمكننا تكوين لبنان بمعزل عن وضع ارض البلدان المجاورة له، ولذلك لا بد من ان ننظر اليه في اطار القسم الغربي من الهلال الخصيب، وعلى هذا الاساس انطلق لدرس الوقائع التاريخية والتطورات الاجتماعية التي حدثت في  جوار لبنان للوصول الى ما حدث فوق ارضه باذن اسياد بلاد الرافدين ومصر، بنوع خاص، كانوا يتنافسون منذ فجر التاريخ على امتلاك المناطق التي تفصل بلادهم للسيطرة عليها، وهي سوريا ولبنان وفلسطين .

وهكذا جاء كتاب الاستاذ جواد بولس ” تاريخنا لعلاقات لبنان مع الشرق المتوسطي ” _ ص 26 _ وقد قسم تاريخ لبنان الى عهدين، ينقسم كل منهما الى فقرات متعددة . وهذان العهدان هما : العهد البحري الذي يحتل من بدء التاريخي الى الفتح العربي، حيث وجه لبنان كان يتطلع الى البحر المتوسط ويمارس ابناؤه نشاطهم فوق مياهه، ثم العهد القاري وهو يبدأ بعد الفتح العربي سنة 640 م حيث حول لبنان وجهه نحو القارة وراح ابناؤه يمارسون الزراعة الا في فترات قليلة .

وان مثل هذا التقسيم لذو قيمة هامة لفلسفة التاريخ يستحق الاستاذ بولس كل شكر لها لكونه اول من قال به، كما ارى، وهو ذو فعل عميق في مصير لبنان .

وقد دعا المصريون الشاطئ الفلسطيني اللبناني منذ القدم باسم ” بلاد زاهي ” ثم ما لبث هذا الاسم ان اقتصر على لبنان وحده . وكانت مدينة جبيل منذ اقدم التاريخ بابا مفتوحا على اسواق اسيا والبلاد العربية، كما ان الفراعنة في عهد المملكة القديمة كانوا انشأوا في جبيل قاعدة بحرية . وقد بقي دور مصر على الصعيد السياسي مسيطرا في لبنان طوال عهد المملكة القديمة .

**

كان دين الفينيقيين القدماء يعتني بموضوع الخلق والانتاج والخصب . والهتهم كانت موجودة قبل مجيء الساميين . وعندما جاء هؤلاء اعادوا النظر بالدين وكيفوه حسب مزاجهم وتبنوه ( ص 69 ). وقد وصلتنا نعوت الهتهم وليس اسماءها مثل بعل وبعلة وادوبيس .

وراى ان لغة الكنعانيين تفرعت الى فرعين الامورية في الداخل والكتمانية على الساحل . وقد تم ابتكار الكتابة الهجائية في النصف الاول من الالف الثاني، وذلك بعد تجارب عديدة سبقتها في فينيقيا خلال بضعة قرون ( ص 87 ) .

وفي الربع الاول من الالف الثاني دخل ابراهيم وقبيلته العبرية ( خبيرو ) الى بلاد كنعان، فتبنوا لغة الكنعانيين والهتهم الذين كان منهم الاله الاعظم ” ايل ” . اما يهوه فقد ظهر لابراهيم لاول مرة عندما كان يهم بالتضحية بابنه اسحق اي بعد ان امن بالاله ايل بزمن طويل ( ص 95 ) .

وعندما حدثت غزوة شعوب البحر والشمال حوالي 1200 قبل الميلاد عرفت فينيقيا القديمة كيف تستفيد من خراب الامبراطورية الحثية وانكماش مصر المنهكة الى داخل حدودها الوطنية، ثم انحسار السيطرة الآخية فقد اعتقت الغزوة فينيقيا من كل وصاية ومزاحمة خارجية، وفتحت امامها المتوسط، حيث لم يعد ينافسها فيه احد ( ص 112 ) .

ويرى ان الامبراطورية البحرية الفينيقية تحققت بالسبل السلمية جزءا بعد جزء خلال قرنين 1200 _ 1000 ق.م ( ص 120 ) .
ويستمر المؤلف بعرض تاريخ فينيقيا مستنتجا ذلك من قواعد تاريخية ثابتة كانت توجه قدر الانسان وتفرض عليه سلوكه، الى ان يصل الى الحقبة الرومانية حيث كان فيها للمدن الفينيقية امتيازات خاصة وحكم ذاتي . كما كان لها حق صك النقود باسمها . وغدا الفينيقيون في هذا العهد يعرفون بالسريان بسبب انتشار اللغة الارامية بينهم، وبعد ان امنوا بالمسيحية . اما كلمة ارامي فبقيت تعني الوثنيين . بينما الاسم العام للبلاد بقي كنعان او فينيقيا حتى ما بعد المسيحية ( ص 194 ) .

**

ويستمر الاستاذ بولس بملاحقة تطورات تاريخ لبنان وتحليل النتائج التي تؤدي اليها هذه التطورات خلال العهد العربي، وذلك بقدرة نادرة على ربط الاسباب بالمسببات، وجمع اراء علماء التاريخ بتنسيق ناجح، بحيث يجعلنا نقرأ رايه الشخصي بوضوح من خلال اراء الاخرين غالبا، ليس تنصلا من تبعة اعطاء رأيه الشخصي، وانما امعانا بتثبيت هذا الرأي ورغبة بابرازه كحقيقة تعارفها العلماء والباحثون . وهذا ما جعلنا نعتبره رجل دولة مثقفا يبحث عن شخصية بلده خلال معرفة تاريخية واسعة فيجد هذه الشخصية ويحددها للاخرين كالاتي :

“ان لبنان ليس بلدا متوسطيا بحريا بوجه تام، كما هو ليس قاريا شرقيا كاملا . وانما هو مركب من العناصر المختلفة التي يتكون منها المجتمعان المذكوران . وبهذه الميزة الخاصة يمتاز لبنان من كامل بلدان الشرق المتوسطي او الشرق العربي التي هي بكليتها قرية تقريبا … ان علاقات لبنان بالبلدان القارية، كما علاقاته ببلدان ما وراع البحار هي الزامية في الاتجاهين معا، لكونها مفروضة عليه من خلال حاجات وجوده الحيوية ” ( ص381 ) .

انه كتاب يجيب عن كثير من الاسئلة التي يطرحها المثقفون على انفسهم او تنتصب باستمرار فوق مجرى تاريخ لبنان …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *