بعد دخوله الأكاديمية الفنزويلية:
جواد بولس في ٥ آلاف سنة من التاريخ
كتب ابراهيم عبده الخوري:
منذ أن كان لنا وجود والطاقات الفكرية اللبنانية تتفجر خلف الحدود. فتنير الدروب وتصقل العقول وتبلور المفاهيم وتغرس بذور الخير والمحبة. فيكرم اصحابها التكريم اللائق اسوة بالمفكرين العظام، لأن المفكر يعمل على إبداع الحضارة، وتركيز أسس المدينة.
وطاقاتنا الفكرية الحديثة تألقت في سموات الغرب، ونافست رجالات الأدب والتاريخ والفلسفة والشعر في عقر دارهم. ويبرز الأستاذ جواد بولس كمؤرخ كتب بالفرنسية تاريخ الشرق الأدنى منذ خمسة آلاف سنة حتى اليوم، منقباً ومحللاً، واضعاً الحقائق نصب أعينها. ويكفيه فخراً أن المفكر الاعلامي رحب بكل إنتاج وضع، وبكل محاضرة ألقى من على المنابر الثقافية التي أحلت الحرف في الصدارة، لأن الحرف وراء بقاء الإنسانية.
عندما ما بارح جواد بولس وغيره من رواد المعرفة يئنون من أوجاعهم. حتى الآن لم يكرموا من قبل المسؤولين في الدولة. على أن جواد بولس كرم أخيراً – ويا خجلنا – من خارج البلاد. لقد أصبح الآن عضواً في الأكاديمية الفنزويلية للتاريخ، وكان قد زار فنزويلا في الصيف الماضي وألقى عدة محاضرات تاريخية في جامعة كراكس. وبذلك يصبح أول رجل في الشرق الأدنى يحصل على عضوية في الأكاديمية تلك. وما عضويته هذه إلا فخر للبنان الفكر والمعرفة، وكسب لهذا الشرق الذي درس حياة شعبه وغاص في أعمق حضاراتها منذ خمسة آلاف سنة حتى تاريخنا المعاصر، في كتابه المعنون “تاريخ شعوب ومدنيات الشرق الأدنى منذ الأصول حتى اليوم” والصادر في خمسة أجزاء باللغة الفرنسية.
النهضة الإفرادية
غاص جواد بولس في تاريخنا وكله ثقة باستخراج ماضيه، الغني بالمآثر والأمجاد، إلى الوجود. فأفلح بعد دأب متواصل وسهر طويل. ورافق المعطيات التاريخية في العالم، ونهل من معينها الخير ما إستطاع. وقال فيها رأيه بكل تجرد. فما وضع تاريخنا من المعطيات تلك. وهل عندنا نهضة حملت تاريخنا الحديث على التطور؟
في لبنان – كما يرى الأستاذ بولس – نهضة لدرس التاريخ وكتابة التاريخ. وهي تقوم على أكتاف بعض الأفراد الذين يصدرون من وقت لآخر مؤلفات تاريخية محصورة في الزمن، ومقتصرة على سرد الوقائع والوصف، من وصف البلدان والأحداث والمعارك من محلية وإقليمية وعالمية. وهذا النوع من التاريخ هو ما يسمى بالتاريخ التقليدي. أما “علم التاريخ” فهو على خلاف ذلك، إذ إنه يبتغي إكتشاف ما يسمونه بنواميس التاريخ أي العوامل التي تتكرر يومياً. ومنها ما يتكرر كل جيل أو جيلين أو أكثر من ذلك.
نبش النواميس
ولنبش النواميس يجب أن نعود إلى التاريخ القديم وتتبع احداثه. فنقف على الأشياء الثابتة فيه منذ آلاف السنين، والأحداث التي تتكرر بصورة دورية. ومن هنا فإن النظريات التي بدأها صاحب “تاريخ شعوب ومدنيات الشرق الأدنى منذ الأصول حتى اليوم” في جميع الأجزاء لم تكن عنده أفكاراً سابقة. لقد استنتجها إستنتاجاً من سير أحداث التاريخ خلال خمسة آلاف سنة في كل بلد من البلدان العربية.
تصرفات الشعوب
وخلال هذه السنين حصلت تغييرات متواصلة أدت إلى تغيير أسماء البلدان ولغاتها وأديانها… إلا أنه لم يتغير شيء تقريباً من طبائع سكانها فلنأخذ مثلاً النزاع الحالي بين بعد البلدان العربية حول ما يسمونه بالوحدة. فإذا تفحصنا التاريخ ملياً نجد أن هذا النزاع ليس بخفي أو جديد. لقد كان أمراً واقعاً منذ خمسة آلاف سنة، خصوصاً بين مصر والعراق وسوريا التي كان كل واحد من هذه البلدان يعمل على تحقيق الوحدة تحت سيادته منذ أيام الفراعنة الأول.
أما العامل الفعال في تصرفات الشعوب فهو يقوم على طباعها لا على لغتها. أي إن اطباع البشر الغريزية، كالشجاعة والضيافة والمحبة وحب الفتوحات والغزو، أو حب الفنون والعلوم والزراعة والصناعة والتجارة..، هي التي تفرض تصرفات الناس وتوجهها.
القرابة الروحية
وبخصوص اللغات فإنها، عبر التاريخ وفي الحاضر، تلعب دوراً إجتماعياً يخلق بين الشعوب قرابة روحية، ويمكنها من التفاهم فيما بينها، وتوسيع عرى الثقافة، وشد اواصر العلم، ويساعدها على تقريب الوحدة السياسية دون أن يفرضها.
إرادة الشعوب
ولفرض هذه الوحدة لا بد من عوامل أساسية، كما يرى المؤرخ جواد بولس، هي: إرادة الشعوب في أن تنصهر في بوتقة واحدة. ووراء هذا الإنصهار لا بد من عوامل إقتصادية، يشعر الإنسان أنه بفضلها يجلب لنفسه.