جواد بولس يشخّص علل التاريخ

من محاضرة القاها سليم واكيم في الندوة بدعوة من مدرسة الهدى في الشياح لمناسبة صدور الجزء الخاص و الاخير من كتاب ” تاريخ شعوب و حضارات الشرق الأدنى ” لجواد بولس .

  • ” إن الكتّاب الذين يعنون في تاريخ الشعوب عامة انما يكتسبون حقوقاً في جميل جميع البشر لانهم يوفرون لهم فائدة من التجارب و الاختبار لا تقدر بثمن ” . بهذه العبارة قدم ديودوروس الصقلي لكتابه ” التاريخ العالمي ” سنة 60 ق.م.

والعلوم تقيّم بما تقدم للانسان من فوائد . و هذا ما يحدونا الى التساؤل : ما هي فوائد علم التاريخ ؟ لماذا افنى جواد بولس اكثر من ربع قرن في دراسة التاريخ و تمحيصه و تحليله و الرجوع الى جذوره و بواعث احداثه و نتائجها ؟ اما كان باستطاعته ان يكتفي بدرسه دون تدريسه ؟

ردنا على ذلك ان الانسان واقع اجتماعي ، و من ثم على رجل السياسة ، رجل الدولة ، ( و جواد بولس بدأ حياته محامياً فنقيباً للمحامين فنائباً فوزيراً ) ان يكون كثيف الثقافة ، واسع الاطلاع ، مستوعباً بوضوح الخطوط العريضة لعلم التاريخ و المدنيات و سير الرجال العظام ، اضف ان يكون متبحراً في العلوم الانسانية بالقدر الكافي الذي يؤهله، في الظروف الاعتيادية و الاستثنائية ، لمواجهة مشاكل البشر و حلها و محاولة اقناعهم بالافضل و لمصلحتهم – الآتية و المصيرية – فيستخلص جانب العبر من أحداث وقعت في ظروف مماثلة و لأسباب مماثلة .

فالتاريخ ” نفسية تتفاعل “. و أدرى الناس بمكنوناتها ، و اقدرهم على كبح جماحها ، قدر المستطاع، هو المحصن بعلمه ، علم الحياة . في عصر لم يعد فيه انبياء ، فالمؤرّخ العظيم هو نبي عصره ، ذلك انه يستطيع ان يدرك الماضي، عند انقطاع التاريخ في بلد او منطقة ما او عند غموضه ، من خلال الحاضر الذي هو امتداد الماضي . وعلى هذا الاساس ، لا يستطيع فهم الماضي و حسب ، انما باستطاعته ايضاً التبصر في المستقبل بعد استجلاء غوامض الماضي و استنطاقه ، ” اذ ان البشرية – يقول فريرو – تسير باتجاه المستقبل تقهقراً و عيونها محدقة بالماضي” .

و هذا العلم سهل الفهم لمن يملك ناصية اللغة و بحسن التفكير و التحليل ، ليس فيه تعقيد التكنولوجيا، و لا غموض شتى الفلسفات.

لقد أراد جواد بولس ان يعلمنا معنى الحياة في اطار اشمل من الفرد والبيئة ، في اطار شامل هو حصيلة اختبار عمرّ آلاف السنين . و القول ان علمه او اختصاصه جانبي جزئي تجن على الرجل . ان علم التاريخ يشمل في الواقع علم الجغرافيا والاجتماع والسياسة والدين واللغات والفلسفة والاقتصاد وبقية العلوم الانسانية التابعة من صميم الحياة. انه وعاء الزمن ، اذ ” ان معرفة النواميس التاريخية ” – يقول مورتيه – ” تمكن الانسان من تعديد الميول الطبيعية للتطور الاجتماعي ، للقواعد العامة التي تسلكها المجتمعات البشرية في حياتها اليومية (…) و هكذا ، باختصار ، توفر نواميس التاريخ لعلم الاجتماع و السياسة دلائل مفيدة ” .

ان لبنان ، الذي افاد و سوف يفيد في ما بعد من ثمرة جهاده ، ان لبنان لموضع اعتزاز لا يداني اعتزاز من كتب عنه . و لن تقتصر الافادة على لبنان و بلدان الشرق الأدنى فقط ، انما تتعدى هذا المدى الحضاري الى البشرية لان التاريخ ” شعوب و حضارات الشرق الأدنى ” يعتبر ، من الوجهة العلمية و العملية ، الفصل الاول من تاريخ البشرية العام يقدمه هبة الى العالم صنديد آخر من ابناء لبنان الابرار.

على افذاذ كجواد بولس ، على امثاله من المفكرين ، يعقد لواء مراحل عظمة لبنان و مجده عبر التاريخ . هي المشاعل التي ساهمت في انقشاع الظلمات عنوة و تبيان الحق . و من قبس نورها ، نور الحرف و الحضارة ، عمد لبنان بلد الاشماع و لا يزال .

بولس و المؤرّخون العالميون

يأتي نتاج جواد بولس القيّم من حيث الكيف و الكم في عداد الكتب العالمية ، و يضع مؤلفه في مصاف علماء التاريخ ، من قدامى و معاصرين . و كل من يقف على مصنفات هؤلاء العلماء ، أو على الاقل ، على خطوطها العريضة و خلاصاتها الموضوعية ، يستطيع ان يتبين بسهولة ما ل ” شعوب و حضارات الشرق الأدنى ” من أهمية أدبية ، و بالتالي ان بقدر ما لها من قيمة علمية وسياسية .

لقد ثبت لأهل الاختصاص ، و أكده بولس في مختلف الحقب ، ان الشرق الادنى كان مهداً لشتى المدنيات الاولية. و في حقل التاريخ ، كانت الاولية من نصيبه بفضل كتاب التوراة ، حصيلة تاريخ اساسي كتبه الشرقيون من انبياء اليهود و أوليائهم ، و أخذ بعضه عن الآداب الفينيقية .

و يليهم مؤرّخو اليونان الذين لم يكونوا ، على كل حال ، أقل شأناً من كتّاب التوراة . غير أنّه في حين كان الدين أساساً للتاريخ لدى الاسرائيليين ، كانت الحضارة جوهرة عند الاغريق .

و يعتبر هيرودوتيس في القرن الخامس ق.م. بحق ، أبا التاريخ رغم ما تشوه كتاباته أحياناً حكايات و أساطير . و تبين انه استقى المزيد من الاخبار و الاحداث القديمة من الآثار التي خلفها سنكويتن البيروني .

وسنكويتن عاش في القرن السادس ق.م. و اعتمد كتاباته كمرجع عدد من كتّاب العهد القديم ، بينهم فيلون الجبيلي 64 ق.م. – 61 م ، و يوسبيوس في القرن الرابع بعد الميلاد . و قد ورد اسمه فعلا في آثار اوغاريت ( رأس شمرا) .

و جاء بعد هيرودوتيس في الاقدمية توقيديدوس( 71 – 295 ق.م. ) مؤرّخ الحرب بين اسبارطه وأثينا . و اذا اعتبرنا هيرودوتيس اول المؤرخين ، فان توقيديدوس استاذهم بلا ريب . انه القمة في النهج والموضوعية والصدق وعدم التحيّز ، واتخذت طريقته كمثال يحتذى لعلم التاريخ . و ثمة تشابه في التركيز بينه و بين مؤرّخنا.

اما كسينوفون 430 – 352 ق.م. فقد اشتهر بكتاب ” حملة في الداخل ” ، و هو وصف حي للمعركة التي دارت رحاها بين الفرس انفسهم و رافق العشرة آلاف جندي الذين اضطروا الى الانسحاب بانتظام فريد من نوعه في المعارك عبر المخاطر و المسالك الوعرة و الجبال حيث يقطن الاكراد . و هو اول المؤرخ اشار الى هذا الشعب بالتسمية .

اما ديوجينوس لايرس في القرن الثالث ق.م. فقد برع في كتابه ” سير كبار الفلاسفة ” .

البشر و الارض و التاريخ

الاحداث الكبرى تخلق كبار المؤرّخين ، كما تخلق القادة . و التاريخ هو تاريخ الاحداث التي يصنعها البشر ، بوعي او بغير وعي ، طوعاً او اكراهاً . لقد أدت حروب هنيبعل الطويلة مع روما ، هنيبعل أعظم قواد العالم بشهادة نده نابوليون ، الى اطلاق بوليبوس 210 – 128 ق.م. كاتب ” التاريخ العام ” الذي يشمل بين دفنيه قرناً من الزمن بلغ ذروته بسبب حروب قرطاجه و روما . لم يكتف بوليبوس بالسرد بل فلسف التاريخ ، و لم يبق مما كتبه سوى خمسة مجلدات ، هي بحق أعمق ما تمخض عن الاقدمين في هذا المضمار . و فد اثّرت في نفسيته الصداقة الحميمة التي كانت تربطه بالحاكم العادل فيلوبومين كما بقي مدة 16 سنة في روما بين آل شبيون قاهر هنيبعل. لذا فان مدى انصافه لعدو صديقه لم ينج من تأثير صداقته لهذا الاخير .

ان ديدوروس الصقلي المعاصر لاوغسطس قيصر ، هو يوناني ، هو أوّل مؤرّخ حصر تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة بين دفات المجلدات ، أي ما شمل آنذاك حوالي ثلاثة آلاف سنة ، فأسهب في تاريخ ما دعاه جواد بولس الشرق الادنى، و لا سيما المصريين و الفينيقيين . و امتاز ديدوروس بالاخلاقية في رائعته ” التاريخ العالمي ” و خلص الى ان روح الانسانية لا تقر الحروب و الاقتتال و ان لا جدوى من هذه المآسي و الكوارث التي تسببها البشرية لنفسها .

و كان سترابون ( 58 ق.م. – 25 م ) اول من ادرك علاقة التاريخ بالارض – الجغرافيا و حاول ابرازها باسهاب في كتابه ” جغرافية ” . كثير الاسفار ، واسع الاطلاع ، كانت لمؤلفه أهمية كبرى . و رغم الخطأ الجغرافي الذي وقع فيه بصدد شمال اوروبا ، فان تحديده لمناطق المتوسط و الشرق الادنى – جغرافيا و بشرياً و سياسياً – في العصر الروماني لينطبق الى حد بعيد على الحدود الحالية لبلدان هذه المناطق ، لا سيما تلك التي نعيش فيها ، و تدعى الحدود الكلاسيكية .

و جدير بالذكر ان حدود لبنان الحالية مع التسمية ، هي عينها تلك التي حددها الجغرافي – المؤرخ سترابون في الجزء الثالث من مؤلفه الكتاب السادس عشر . و قد جاء في خلاصة هذا التحديد ان جبل لبنان عاصمته طرابلس و ان لبنان الشرقي عاصمته صيدون . و طرابلس و صيدون مدينتان فينيقيتان .

و في حقل كتابة السير ، برع بلوتارك ( 50 م. – 125 م.) . فقد كتب سير عظماء الاغريق بالمقارنة مع اندادهم الرومان فرداً فرداً ، و كان هذا معاصراً للعالم لوقا السمساطي السوري الذي يعتبر فولتير عصره . و في عداد ما خلفه لنا من آثار ، كتاب عنوانه ” كيف يكتب التاريخ ” .

و قام الى جانب هؤلاء في العصر الروماني المؤرّخ الفذ يوسفيوس ( 37 م. – 100 م. ) معاصر السيد المسيح و هو من اليهود ” الفريزيين ” مثل بولس الرسول قبل اعتناقه المسيحية . قلنا ” الفريزيين ” لأنها التعبير الاصح، من “فرز و امتاز ” . و الفريسيون ، على حد تعبير الكتاب المقدس المترجم ، يشكلون النخبة عند اليهود.

ذكر يوسفيوس المسيح ( ؟ ) و يوحنا المعمدان ، و لولاء لفاتتنا احداث عصره في الشرق الأدنى ، ولا سيما فلسطين و التي تعكس احداث عصرنا . و تعتبر رائعته ” حروب اليهود ضد الرومان ” ثورة تاريخية نادرة المثال . فمن خلالها عرفنا هذه الحروب و ما آلت إليه و من اشترك فيها من يهود و آراميين و من سوريين و عرب و مصريين و رومان ، كما عرفنا تفاصيلها و كيف اجهز القائد الروماني طيطس على هيكل أورشليم و على المدينة برمتها عام 70 م. و تجدر الاشارة الى انه كتب بالفينيقية – العبرية و ندد باليهود .

أما مؤرخو اللاتين ، فقد برز منهم تبت – ليف ( 59 ق.م.- 17 م.) في وضع ” التاريخ الروماني ” الذي فقد قسم منه. تبت صديقاً لاوغسطس قيصر و كان كاتباً بارعاً أكثر منه صادقاً . و منهم تاسيتوس ( 55 م. – 120 م. ) الذي كتب تاريخ الجرمان ، و يليه سويتون ( 69 م. – 141 م. ) كاتب ” سير القياصرة الاثني عشر” . و تجدر الاشارة هنا الى ان يوليوس قيصر نفسه كتب تاريخ فتحه لبلاد الغال ( فرنسا ) و بريطانيا .

و في العصر الهيليني – الروماني – برز كاتبان ايضاً من اللاتين عالجا مواضيع شتى : بلين القديم ( 23 – 79 ق.م. ) اشتهر بكتاب ” تاريخ الطبيعيات ” و ابن اخيه بلين الصغير ( 61 – 118 م. ) .

و عرفنا بطليموس ، يونانيا من الاسكندرية في القرن الثاني ميلادي صنف مجلداً في الجغرافيا اعتمدت خطوطه العريضة تحديدات الجغرافيين اليونانيين اراطوسنين و سترابون ، و بلين القديم و مارينوس الصوري .

و في زمن بيزنطية ، عرفنا مؤرّخين كباراً ايضاً في طليعتهم اميان مرسلين ( 230 – 400 م. ) الذي روى لنا مأساة بوليان الجاحد . و بوليان هذا نسيب الملك قسطنطين أوّل ملك تنصر ( 325 ) .

و يعتبر بوسيبوس مؤرّخ الكنيسة المسيحية الاول اذ ترك للعالم تاريخاً قيّماً هو ” تاريخ الكنيسة و شهداء فلسطين ” في عدة مجلدات ، و كتب سيرة الامبراطور قسطنطين . و هو المؤرّخ الذي أشار الى ان المسيح حاضر في مدرسة الحقوق التي اشتهرت بها بيروت .

و ثمة مؤرخان آخران برزا في العصر البيزنطي هما بروكوب من مواليد فلسطين في القرن الخامس و ثيوفان المعروف عند العرب بثيوفان الرومي ، و كلاهما يونانيان : و قد عاصر هذا الاخير الفتح الاسلامي العربي .
و من أشهر مؤرّخي الاسلام ابن هشام الذي استند على ابن اسحق ، و ابن سعد مؤلّف ” الطبقات الكبرى ” ، وابن الاثير في مجلده ” الكامل في التاريخ ” و ” البداية و النهاية ” ، و أبي الفداء في كتابيه ” التواريخ القديمة من المختصر في اخبار البشر ” فنقله هوارت مؤلف ” تاريخ العرب ” الى الفرنسية في جزئين . و ثبت ان المطهر ضليع في علم التاريخ . و من خلال هؤلاء و غيرهم ممن كتبوا عقب الفتح الاسلامي ، عرفنا تاريخ الاسلام و سيرة محمد والخلفاء الراشدين وغيرهم.

وتجدر الملاحظة إلى أن ثيوفان (الرومي) والبلاذري (الفارسي)، كاتب “فتح البلدان”، أشارا إلى أن جبل لبنان صمد وظل في مأمن من الفتح ولم تطأه جيوش العرب.

حضارات العالم

لما تيسرت سبل العلم وبدأ عصر النهضة يمهد للعصر الحديث، أنجبت اوروبا نفرا من المؤرخين العلماء اعطوا التاريخ معنى ثوريا، وادخلوا مادته في صلب العلوم الانسانية .

وفي طليعة هؤلاء ميشليه ( 1798 _ 1874 ) مؤرخ الثورة الفرنسية وكاتب تاريخ فرنسا، ورينان ( 1832 _ 1892 ) كاتب تاريخ اللغات السامية، وماسبرو ( 1846 _ 1917 ) العالم في الآثار والاختصاصي في تاريخ مصر، وغروسيه وهو حجة في تاريخ الشرق الاقصى وآسيا والمشرق وحضارات الشرق، ودوسو كاتب ” تاريخ دخول العرب الى سوريا قبل الاسلام ” و ” تاريخ سوريا القديمة الوسطى “،  وكونتنو كاتب تاريخ المدنيات القديمة في الشرق الادنى والمدنية الفينيقية والمدنية الاشورية البابلية، وهنري بر مؤرخ ” تطور البشرية العام ” الذي يتضمن دراسة فلسفية ونقدا شاملا للاحداث الكبرى، وفوستيل دي كولانج كاتب ” المدنية القديمة “، وغودفروا ديمومبين وهو حجة في تاريخ الاسلام، وديهل كاتب تاريخ الشرق المصري والبيزنطي، وشابو كاتب تاريخ  مصر الرومانية والعصر السرياني، وجزيل الحجة في تاريخ شمال افريقيا، ورايناخ وبلوخ كاتبا ” تطور وانهيار الامبراطورية الرومانية “، وبارو المعاصر وهو العالم الاثري والمؤرخ كاتب تاريخ مدينة ماري في العراق .

واشتهر في ايطاليا سيزار كونتو مؤرخ الفاتيكان ورجل الدولة من طراز رفيع ومصنف ” تاريخ العالم ” , وفريرو ( 1871 _ 1942 ) مؤرخ قيام وسقوط الامبراطورية الرومانية . اما بلجيكا فقد عرفت مصنف التيارات الكبرى في التاريخ .

ولم يكن العالم الانكلوسكسوني اقل شأنا من الاتين في هذا المضمار . فاشتهر في بريطانيا في القرن الثامن عشر جيبون ( 1737 _ 1794 ) كاتب تاريخ ” سقوط الامبراطورية الرومانية “، وماك اولاي ( 1800 _ 1859) كاتب تاريخ بريطانيا، وجيمس بريستدد مؤرخ ” فتح الحضارة “، ومومسن كاتب ” تاريخ روما ” والمعاصر ارنولد توينبي مؤلف ” دراسة في التاريخ ” .

كذلك انجبت المانيا رهطا من كبار علماء التاريخ، منهم كرامر كاتب ” تاريخ سومر “، وماكس موللر الموازي لرينان، وكيسرلنغ ( 1880 _ 1946 ) محلل تاريخ اوروبا .

والى جانب هؤلاء قام علماء جغرافيون كبار امثال ريكلو مصنف ” جغرافية العالم “، وبرونه كاتب  ” الجغرافيا البشرية “، وكفنياك مؤلف ” تاريخ العالم _ مقدمات ” .

لقد نقل الينا هؤلاء جميعهم تاريخ العالم وحضاراته عبر الاجيال، وقد اشرنا اليهم بصورة خاطفة . وفي مصاف هؤلاء وبمنزلة ممتازة وربما فريدة، يأتي جواد بولس مرتبة في علم التاريخ . انه بلا ريب، والكلمة لمن هم اعلم منا، احد اتمة علمائه في العالم .

ولا عجب، فقد انجب لبنان في عصر النهضة والعصر الحديث، مؤرخين في طليعتهم اسطفان الدويهي كاتب ” تاريخ الطائفة المارونية “، ويوسف السمعاني صاحب ” المكتبة الشرقية “، والدبس مصنف ” تاريخ سوريا ” . اضف اليهم بني والمعلوف وشيخو وزيدان . اما فيليب حتي المعاصر لجواد بولس، فقد تعدت شهرته كمؤرخ كبير العالم الانكلوسكسوني .

الكتاب

ان كتاب ” شعوب وحضارات الشرق الادنى ” لجواد بولس هو الكتاب الذي اوصت بنشره جامعة السوريون لدى دار ” موتون ” في لاهاي ( هولندا ) . وحين صدوره كتبت مجلة ” ميدل ايست فوروم ” البريطانية : ” يجب ان يوضع هذا الكتاب الى جانب افضل الكتب التاريخية في مكتبة كل رجل مثقف ” .

قسم جواد بولس تاريخه خمسة اجزاء تضمنت اربع عشرة حقبة تاريخية منذ البدء حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية، وذلك في ضوء القواعد العلمية بمعزل عن اي تأثير او تاريخ سابق، للعالم او لجزء منه . ثم اضاف اليها ملحقا في الختام . واليكم خطوطه العريضة :

الجزء الاول _ 422 صفحة :

يعتبر الجزء الاول المحرك والمولد الاساسي لكتابه، فيشمل حقبة غامضة منذ ما قبل التاريخ حتى 1600 ق.م. ويبدأ هذا الجزء بتعليلات وتحاليل تشكل مجتمعة فلسفة التاريخ , فيعالج بصورة عامة العوامل الطبيعية والعنصرية والسلالية والطبائع الورائية والبيئة الطبيعية وبسيكولوجية الشعوب والقطاعات الجغرافية التي تشكل بلدانا ومقاطعات . ومن هذه المقدمات المتدفقة كالسيل الجارف ينتقل الى الخوض في اغوار المدنيات السحيقة لشعوب الشرق الادنى والعالم القديم .

ثم يحدد _ جغرافيا وحضاريا وسياسيا _ هذه المنطقة الحساسة من العالم التي تناولها كتابه كأصل لا كفرع، على اساس انها تضم منطقة ما بين النهرين، اي شمال العراق وجنوبه والمنطقة العليا والسفلى لمصر ثم سوريا ولبنان وفلسطين والصحراء السورية وشبه جزيرة العرب، ثم الشرق الادنى وآسيا الصغرى بما فيها ارمينيا وايران .

ويشمل هذا الجزء ايضاً، ما لم يبد في عنوانه، الشعوب القديمة الاولى وتلك التي عاصرت بداية النقش التاريخي على الحجر والآجرات وتدوين لغات الشرق القديم وكتاباته وديانات شعوبه وعاداتهم. وتعود هذه المرحلة الغامضة الى عشرين الف سنة قبل التاريخ المدون الى ما يسمى بالعصر النيوليتي .

ويعزو المؤرخ الى انساني ” هومو غاليلينسيس ” و ” هومو سابينس ” الاجناس البشرية المعروفة في الشرق العريق والمكتشفة لغاية الآن . كما يعزو الى اللغة الحامية _ المصرية القديمة واللغات السامية القديمة، واللغات الآسيوية والهندو _ اوروبية والشرقية القديمة الاولوية في اللغات والكتابات.

ويعالج في معرض هذا الجزء الرئيسي تاريخ الرحل والاريين الاوائل، مشيراً الى العنصر السامي الاول او البدو الرحل كأسلاف البدو والعربان اليوم , دون ان يفعل الاشارة الى الساميين الاصليين والساميين الخليط المشتركين . فيقارن بينهم وبين بداوة الآريين الاوائل المزارعين والرعاة .

ثم ينتقل الى الطابع العام الذي انطبع به الشرق القديم، الا وهو النفسية الصوفية والنزعة السياسية والذهنية الدينية. فيبرز لنا مظاهر الصوفية الدينية لدى قدامى المصريين والساميين البدو في بلاد العرب، وجيرانهم الساميين الحضر في ما يسمى الهلال الخصيب . ثم يركز على ان الوحدانية الدينية لدى الساميين كما نجلت عبر العصور قبل الاديان المعروفة اليوم هي حصيلة مركزية السلطان السياسي .

وفي اعقاب هذه المعطيات وليدة علم التاريخ عبر الزمن، وقبل الخوض في الحقبة التاريخية الاولى المحددة (2500_ 2900 ق.م. ) تاريخ بزوغ اولى الحضارات، يقدم المؤلف هذه المرحلة بالحقبة الفاصلة بين التاريخ وما قبله بما يسمى ” ما قبل التاريخ القريب ” فيحدد مداها في الزمان والمكان منطلقا من مصر ( وادي النيل والدلتا ) ومنطقة ما بين النهرين ( وادي دجله والفرات ) كمراكز مدنية وتجارية من جهة، ولبنان وعيلام (خوزستان اليوم ) وشرق الاردن والنقب، كمراكز تبادل المدنيات والسلع ( ترانزيت ) من جهة ثانية .

وهكذا تكون الحقبة الاولى ( 2500 _ 2900 ق.م. ) قد شملت بزوغ الحضارات الاولى وسجلت فجر التاريخ . والحقبة الثانية ( 2900 _ 2400 ق.م. ) تجلت في موجات هجرة الساميين والبدو وانصاع البلدان حضاريا في حين حددت الحقبة الثالثة المد السامي في مجيء الاموريين وظهورهم في ما يسمى بمنطقة الهلال الخصيب . اما الحقبة الرابعة ( 2000 _ 1600 ق.م. ) فهي التي شهدت تدفق الموجات السامية المتحركة من جديد وغزوات اهالي مناطق الشمال للشرق الادنى، كما شهدت تيه العبرانيين والاراميين .

الجزء الثاني _ 435 صفحة :

ينقسم الجزء الثاني خمس حقب تكمل سير التاريخ . فالحقبة الخامسة ( 1600 _ 1200 ق.م. ) تشهد ردود الفعل المصرية ضد غزو الهكسوس ( والهكسوس ليسوا ” الملوك الرعاة ” على ما يبدو، انما هم ” الملوك الغرباء ” ) كما تشهد التوسع العسكري الفرعوني في آسيا او الامبراطورية المصرية . وفي الحقبة السادسة (1200 _ 750 ق.م. ) يتكرر تدفق موجات الساميين ودفعات من اهالي الشمال مصدرها البحر . كما تشهد هذه الحقبة تعديلات عنصرية _ لغوية وتجزئات سياسية . وفي هذا العصر، بلغت الامبراطورية الفينيقية ذروة اتساعها واستقلالها وعظمتها انطلاقا من وطنها الاساسي لبنان وسجلت هذه الامبراطورية الحضارية التجارية البحرية بالاشتراك مع امتدادها امبراطورية قرطاجه، الامبراطورية الاطول عهدا في التاريخ .

اما الحقبة السابعة ( 750 _ 450 ق.م. ) فتتكرر خلالها غزوات قبائل الشمال السيزيين البرابرة وغيرهم، وتتجدد فيها نهضة امبراطورية الرافدين وتوسع الاشوريين والكلدان والميديين والليديين، حيث تحاول الامبراطورية الاشورية الانفاذ الى البحر . والحقبة الثامنة ( 540 _ 330 ق.م. ) اتسمت بزهو الامبراطورية الاخمينية _ الفارسية وسيطرتها، وهي الاولى التي قامت في الشرق الادنى بمقياس الامبراطوريات وكانت قبلتها البحر ايضا . ثم ينتهي الجزء الثاني بالحقبة التاريخية التاسعة ( 320 _ 64 ق.م. ) التي شهدت تراجع المبراطورية اليونانية _ الايجية البحرية، الا وهي امبراطورية الاسكندر والممالك الهلينية من بعده .

الجزء الثالث _ 400 صفحة :

يضم الجزء الثالث الممتد من 64 ق.م. الى 640 م. حقبتين رئيسيتين مكملتين لمجرى التاريخ . فقد تميزت الحقبة العاشرة بظهور العصر الروماني ( 64 ق.م. الى 285 م. ) وذلك بتوغل الغرب المحتل بالامبراطورية الرومانية شرقا وانقسام العالم القديم معسكرين : الغربي وقاعدته روما والشرقي وقاعدته بلاد فارس .
وان كانت لهذه الحقبة اهمية كبرى من حيث احداث العالم وتطوره العام، فانها تبلغ الذروة بمجيء السيد المسيح الذي شق التاريخ الى قديم وحديث . لكن العلم لا يفصل بينهما ولا يستطيع ان يفصل . اما الحقبة الحادية عشرة (285 _ 640 م. ) فقد تحركت خلالها قبائل البرابرة وغزا الغوت والجرمان اوروبا وتفككت الامبراطورية الرومانية وانقسم الشرق قسمين بيزنطيا وايرانيا . وقامت ثلاث عواصم لتستقطب القوى العالمية بدلاً من اثنتين: القسطنطينية وروما وفارس .

الجزء الرابع _ 550 صفحة :

قد يعتبر هذا الجزء بعد الاول اهم الاجزاء، ويمتد من 640 الى 1517 م.، اي من الفتح الاسلامي حتى الفتح العثماني، ويضم حقبتين رئيسيتين . فالحقبة الثانية عشرة ( 640 _ 1055 م. ) تشهد المد السامي العربي الاسلامي بقيادة محمد وصحبه انطلاقا من جزيرة العرب . وخطورتها في غاية الاهمية . ورغم انها فصلت بين عهدين في المظهر، فالامر ليس كذلك في الجوهر . فالفتح، في ضوء التاريخ، ليس سوى تكرار ومداور لتدفق الموجات السامية المتعددة التي سبق واشرنا اليها مجسدة الامبراطوريات الشرقية التي تقدمتها .

اما الحقبة الثالثة عشرة ( 1055 _ 1517 م. ) فهي التي شهدت محاولة الغرب للاستيلاء على الشرق مجددا من خلال الموجات والحروب الصليبية . وهي تلك التي اتسمت بتتريك آسيا الصغرى وسيطرة الاسيويين على الشرق الادنى من جديد . فالعنصر الاسيوي تجلى في الاتراك السلاجقة والايوبيين الاكراد والمماليك العبيد من اصل تركي مشترك والنتر والمغول .

الجزء الخامس _ 300 صفحة :
يتضمن هذا الجزء الحقبة الرابعة عشرة والاخيرة ( 1517 _ 1918 ) انني شهدت اندفاع الغزو الاناضولي لبيزنطية والاتراك العثمانيين، وتدمير الامبراطورية البيزنطية حيث اصبح سلاطين بني عثمان اسياد الشرق الادنى، كما شهدت تفكك الامبراطورية العثمانية وتقلصها وتحولها الى الجمهورية ، ومن ثم قيام دولة وطنية وقومية في المنطقة ( 1918 _ 1930 ) .

قال احد ائمة ادباء الغرب في صدد الكتاب : ” منذ اكثر من ربع قرن لم تعرف المكتبة الاوروبية كتابا بهذا المستوى ” . اضف الى ذلك ان مؤرخنا قد انجز الى جانبه مجلدات ثلاثة برسم الطباعة : تاريخ لبنان المقارن مع سوريا وفلسطين،وتاريخ العراق، وتاريخ مصر.

ديغول وبوف _ مري

التاريخ الذي يحزم علوم الانسانية كافة يتطلب سعة في الثقافة وعمقاً، مقترنين بالجرأة والصراحة والنزاهة . فكتابة التاريخ، كالحكم، مسؤولية وليست متعة، ولا بد لمن يخوض غمارها درسا وتمحيصا ان يضيع او يقع في الالتباس . لكن مؤرخنا لم يفقد اعصابه وانتهى بجلد ووضوح لا مثيل لهما من رحلته الطويلة وبلغ الشاطئ الامين . لم يتحامل على فرد او شعب ما، ولم يعط لآخر ما لسواه، والعدل من طبعه، لا بل لم يحاول قط ان يشوه المشاهد ويزور المقاصد ويقلل من خطورة الاحداث ومسبباتها . كان موضوعيا ودقيقا، فأعطى كل ذي حق حقه حتى انتزع الاعجاب به وبملحمته التاريخية العلمية انتزاعا .

يقول الجنرال ديغول في رسالة للمؤلف في 10 _ 10_ 1961 لدى صدور الجزء الاول متأثرا بسعة المشروع واهميته :

” ان هذا الجزء الاول من كتابك ” تاريخ شعوب وحضارات الشرق الادنى ” قد سمح لي بتقدير تألق واهمية العمل الذي قمت به . انني شديد التأثر لان يكون هذا الكتاب، المدعو الى ان يكون له قراء كثيرون، قد وضع بالفرنسية . انني اتمنى له افضل النجاح ” …

وقال بوف _ مري مدير صحيفة ” الموند ” الفرنسية السابق في رسالته بتاريخ 12 _ 9 _1961 ما تعريبه : ” اني اثني علي قول توينبي اذ ان القراء، حتى الاختصاصيين، سيتعلمون المزيد من هذا الكتاب ” . وكان توينبي بالفعل قد اشار في مقدمته للكتاب الى ان بولس ” وضع اصبعه على الثوابت في الحقل التاريخي وبرهن على ان ثمة عوامل جغرافية ونفسية ثابتة تتكرر باستمرار من خلال جميع التغييرات الظاهرة التي تطفو على سطح الحياة ” .

وقالت صحيفة ” الموند ” (1961 ): ” لقد استطاع جواد بولس، بسعة اطلاعه ونظرياته الجريئة، ان يسد الى حد بعيد فراغا لم يسده احد حتى الان من النخبة في الشرق الادنى في دراسة تاريخهم “.

وقال المؤرخ والديبلوماسي ردولفو اوزيكلي من المكسيك في سياق رسالته بتاريخ 19 _ 10 _ 1961 ما تعريبه : ” ان هذا الكتاب معد ليعطي العالم صورة عن تاريخ الشرق الاوسط وثقافته، وانه على ما بلغني، لا مثيل له . ان ارنولد توينبي، رغم مقدمته الوجيزة ولكن المعبرة، قد انصفك تماما ” …

اما البروفيسور غولميه من جامعة استراسبورغ وحاليا في السوريون، فقد امتدح الكتاب برسالته في 22_10_1961 قائلا : ” ان عملك يشكل في حد ذاته الحل الاكثر منفعة وقيمة من جميع الحلول التي اعطيت لمشاكل الشرق الحديث، كما انه، في الوقت ذاته، يمهد الى حل معضلاته … وفي زمننا الحاضر، حيث يكتفي الباحثون عادة ببحث نقاط تفصيلية معينة، بعثت بنجاح الطريقة التي كتب بها مونتسكيو ” اعتباراته “، ( وهو كتاب ” اعتبارات عن اسباب عظمة الرومان وسقوطهم ” ) .

ويقول الديبلوماسي والمؤرخ الاسباني اميليو غوميز في خطاب ارسله للمؤلف في 14 _ 10 _ 1961 : ” لقد بعثت بالكتاب الذي اهديتني اياه الى جامعة مدريد (…) ان كتابك يكشف لنا النواميس العامة التي تأتي الاحداث اليومية فتؤكدها . وبصفتي مؤرخا اقول انك ملم الماماً عظيماً في وضع خريطة كبيرة بمقاييس رياضية ، و هنا توجد الاخطار التي تواجه كل تاريخ واسع . اما انت فقد عرفت كيف تتحاشاها لمنفعة قرّائك بحيث يسهل عليهم في المستقبل ان يركبوا البحر آمنين في هذه المياه العكرة” .

اما اندره بارو ، عالم الآثار و التاريخ ، فأشار في رسالته بتاريخ 26 – 4 – 1967 : ” انني اوافق تماماً جواد بولس على نظرياته و بصورة خاصة على خلاصاته . انك لمؤرّخ عظيم و لرجل دولة كبير ” .

قلعة المفاهيم العلمية

بنى جواد بولس قلعته التاريخية على مفاهيم علمية قال فيها من أعلام الارض ، لكنهم أئمة الفكر في العالم و قممه. و دارت هذه المفاهيم حول علاقة الانسان بالأرض – الجغرافية و علاقة الجغرافيا بالتاريخ .

يقول جواد بولس : ” ان الاحداث السياسية و الاجتماعية الكبرى في تاريخ شعوب الشرق الادنى ، المحددة بعوامل جغرافية لا تتبدل عادة و بطبائع اثنية و ذهنية ثابتة نسبياً تكفيها البيئة الطبيعية ، ان هذه الاحداث التي تتكرر بشكل شبه منظم ، تكشف لنا عن وجود بعض الثوابت التاريخية و تبدو خاضعة لنواميس ما ” . (ص 2 – 66 ج 4 ) .

و يقول في مكان آخر بالنسبة الى القوانين و تبدل الانظمة : ” ان القوانين التي يسنها البشر و التغييرات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية المفروضة عليهم يجب ، لتكون ناجحة و مستمرة ، ان تنطبق على حاجة البيئة الخارجية . كما يجب ان يحسب حساب الميول الطبيعية للمجتمع المدعو الى الخضوع لها و الى مدى هذه النزعات و حدودها ، بمعنى الطبائع النفسية المتوارثة هنا ، تلك التي تحدد المسلك العادي للشعوب ” . ( ص 365 ج 4 ).

ان التاريخ صارم : لكنه لا يظلم و لا يرحم . انه نقيض العقلانية او الايديولوجية ، لا يسلم بها الا بقدر ما تتجسد في اعمال و احداث . ان للعقلانية و الايديولوجية مكاناً في احدى زوايا الفلسفة لا في جذور التاريخ . يمكننا ان نتصور الاشياء كما نريد ، لكنها في الواقع ليست كذلك .

يبيدو ان الذين ادركوا هذه الحقيقة لم يكونوا من المؤرخين وحسب ، اذ ” ليس ثمة عمل معاكس للطبيعة يستمر ” سواء أكان في حياة الفرد ام الشعوب ” و لا يدوم عمل الانسان ما لم يكن متجاوباً مع قوى الطبيعة . و مهما اتسع اطار الحرية التي يتمتع بها الانسان ، فانه لا يستطيع ان يتصرف الا بتأثير من طبائعه التي هي حصيلة الوراثة المقرونة بالبيئة الطبيعية ” . ( ص 19 ج 1 ) .

ثمة مفكرون لم نشر اليهم في عداد كبار المؤرخين مثل برمنيدس في أواسط القرن الخامس ق.م. الذي اثر على فكر ارسطو و افلاطون . ادرك برمنيدس ان للبيئة الطبيعية و المناخ تأثيراً على الانسان . كذلك ابن خلدون أكد هذه العلاقة عندما قال في مقدمته ” اذ اراد امرؤ ان يفهم حضارة شعب ما فعليه ان يبدا بجغرافية هذا الشعب ” .

و قابله في الغرب مونتسكيو ( 1689 – 1755 ) اذ قال في كتابه ” روح القوانين ” في باب ” القوانين و علاقتها بطبيعة المناخ “: ” اضيف تأثير ذلك على نفسية الشعوب المتباينة ، طبائع و طبيعة ، بالنظر للتفاوت في نوع البيئة الطبيعية و تركيبها و ظروفها ” . و تحدّث مونتسكيو من الثوابت في الدين و العادات و الاخلاق في البلاد الشرقية ، فقال :

” … ان حساسية الامم الشرقية تجعل النفس الشرقية المنقبضة ، عندما تتلقى اي انطباع ، لا تقبل استبداله بآخر (…) و هذا هو السبب لماذا لا تزال القوانين و العادات و الاخلاق ، حتى المسائل التي لا مساس لها في الجوهر كالزي مثلاً ، لا تزال حتى يومنا هذا ، كما كانت عليه منذ آلاف السنين ” …

و يقول جواد بولس : ” ان العلاقة بين الانسان و البيئة ليست علاقة عدائية ما دام الانسان يتكيف وفقاً لنواميس طبيعة البيئة . لكن هذه النواميس لا تصفح عمن يناوئها انها تدمره ” .

و فد يرى بعضهم في هذا القول جبرية يرفضها العلم . ان هذه النظرية تختلف عن النظرة الدينية للاشياء . ليس ثمة تحجّر . نستطيع ان نتقدم و نتطور بقدر ما نعي نواميس الطبيعة و نتكيف وفقاً لها . ان جميع الاكتشافات مبنية على كشف أسرار الطبيعة ، الذرّة مثلاً و ليس تقدم دون علاقة متبادلة بين الانسان و الارض من جهة ، و بينهما و بين الكون من جهة ثانية .

يقول بولس : ” مع الاسف ، لم تفلح العلوم و المعارف في تهدئة خواطر الناس و اطباعهم ، فأطماع البشر لم تتبدل … ان البشر لم يتعلموا ان العلم و التعليم و المدنية عجزت كلها عن منع وقوع الحربين العالميتين اللتين حصلتا في المنتصف الاول من القرن العشرين ، و عن التخفيف وحشيتهما . ان هذه التجارب الدامية لا تبدو انها علّمت البشر الاحياء ان القوة التي تدمر الغالبين و المغلوبين في آن واحد ، ليست اثر من علاج مؤقت للمشاكل التي تفرق بينهم . و بالتالي ان احلام السيطرة أوهام خطرة و كوابيس مكلفة ، و ليس ثمة شعب يستطيع ان يستعيد شعوباً الى الابد . و بدلاً من دعوة الناس الى التعقل و الحكمة و ضبط النفس ، و الى كبح جماح مطامعهم و شهواتهم ، لم ينتج عن تقدم العلوم و المدنية في ايامنا هذه ، سوى تفاقم وسائل التدمير ” . ( ص 367 ج 4 ).

و في صدد الشرق الادنى في الوقت الحاضر ، يقول جواد بولس : ” اننا لم نخرج بعد من الدوامة التاريخية . فالمنطقة مجزاة حضارياً الى بلدان و شعوب و هويات مختلفة و لم تعرف الوحدة الا بفضل القوة . و عندما ينتاب العامل الموحد الوهن العسكري و السياسي تعود و تتفكك . فالصفات القومية ليست وليدة العرق او اللغة او الدين ، انها نتيجة مؤثرات البيئة الطبيعية المميزة عن غيرها بالمناخ و النفسية المتوارثة جيلاً بعد جيل ” .

امبراطوريات البحر و البر

اما بصدد الصراع العالمي و تنازع القوى العالمية النفوذ و البقاء ، فنظريته لا ترتكز على الصراع بين الشعوب بسبب العنصر و انما على مفهوم يراه من عل ، الا و هو الصراع الدائم بين الامبراطوريات القارية و الامبراطوريات البحرية .

ان الامبراطورية ، بحرية كانت او قارية ، يفرض هويتها موقعها الجغرافي . بحرية ، كالامبراطورية الفرعونية القديمة و الفينيقية و القرطاجية و الاغريقية و الرومانية و البيزنطية و حديثاً البريطانية و اليابانية و الاميركية . و قارية ، كالامبراطورية الاشورية البابلية و الفارسية ( و الاخمينية و الساسانية ) و العربية و التركية و العثمانية و الالمانية و الصينية .

و قد تنازع العالم منذ البدء ، مداورة ، امبراطوريتان كانت كل واحدة تحاول ان تقتحم مدى الاخرى حتى اذا ما انهارت احداهما – اذ قلما انفردت قوة واحدة بالتحكم بمصير العالم و مصائر الشعوب – احتلّت مكانها تلقائياً قوة ثالثة في العالم .

و اذا ما قارنّا بين الحاضر و الماضي نجد الامبراطورية الاميركية ذات طابع بحري ، و الامبراطورية السوفياتية ذات طابع قاري ، تنازعان العالم . و تقوم الآن في الشرق الاقصى امبراطورية قارية رهيبة هي الصين . و منطق التاريخ فرض التوازن عادة بين القوتين . و الحرب هي التعبير عن الإخلال في التوازن .

ان ما نعتبره عفوياً او من عوامل الصدف ، يشكل في المنظار ” الميكروسكوبي ” للكون ناموساً و نظاماً عبر التفاعل المستمر بين الشعوب لا يستقر العالم من دونهما . فطبيعة البشر قائمة على التفاعل الدائم ، و لا شك بأن للارادة البشرية مكاناً اولياً ، الا انها لا تنفك تخضع لمؤثرات البيئة و الظروف ، و لا سيما الارادة الجماعية التي هي التعبير الأدق ” للنفسية المتفاعلة ” .

و جواد بولس الذي شخص العلة التاريخية و صف الدواء في مشاطرة الوعي التاريخي من البشر اجمعين و العمل بموجبه . و كانسان ، فقد تجرّد من النظرة المشؤومة الى تاريخ الحروب و انتحار الانسانية ، ز خط تحت عنوان كتابه – الجزء الثاني – ” من اجل السلام بين البشر “.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *