فريال ابو رجيلي تستجوب :

المؤرخ الذي رشح للرئاسة مرتين ويرفض التحدث في السياسة

لبنان الجديد الذي نطمح اليه .. ما هو وكيف نبنيه .. ومن هم المسؤولون عن بنائه اولا ؟ .. وما علاقة التاريخ واحداثه وتطورات هذه الاحداث في ذلك كله ؟ ..

المؤرخ الكبير الاستاذ جواد بولس يوضح في هذه المقابلة _ من خلال فهمه العميق التاريخ وفلسفته لاحداثه _ ما لنا وما علينا، محددا منطلقات العمل الكبير في قاعدة بناء المستقبل الذي يليق بأمة عريقة بحضارتها .

والاستاذ بولس حجة في ما يقول اعتمادا على سعه في المعرفة وعمق في النظرة الى شؤون الحياة، ناهيك بخبرة في الممارسة غنية بدراسات في اصول التاريخ وفلسفته كان من حصيلتها مؤلفة القيم الذي صدر اخيرا باللغة الفرنسية في خمسة اجزاء متضمنا تاريخ الشرق الادنى وكل ما يتصل بشعوب الشرق وحضاراته .

والى كونه علامه في التاريخ وكلمة فصل في فلسفة احداثه، مارس الاستاذ بولس السياسة فكان احد اعلامها المجلين وانتخب نائبا سنة 1937 ثم في 1943 عين وزيرا في حكومة ثلاثية ضمت المرحوم الرئيس ايوب ثابت والرئيس الامير خالد شهاب . ومن خلال ممارسته لشؤون السياسة والحكم تكشفت الاستاذ جواد بولس وقائع كثيرة مختلفة كانت في جمله ما حمله الى الانصراف للتاريخ والتعمق في فهم احداثه وفلسفتها ..

“أنا لا أتعاطى السياسة ”

كلام قد يفاجئ الكثيرين .. لكنه في الواقع حقيقه لمستها بتفسي عندما اتصلت به طالبة موعدا لمقابلته، وكان جوابه : اهلا وسهلا .. شرط كل شيء عدا السياسة … وهكذا بعيدا عن السياسة، رحت اطرح عليه من الاسئلة كل ما يهم لبنان والعرب في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا ..

– أستاذ بولس: انتم ثقة في التاريخ فما هي دروسه بالنسبة لحاضرنا ؟ ..

  • الواقع ان الشرق العربي ميزة كبرى هي انه يشكل ممرا بين آسيا والبحر الابيض المتوسط والعالم الغربي .. وقد اثبت التاريخ ان قوة البلدان العربية تكمن في واقع انه وسيط بين العالمين الشرقي والغربي وهذا ما يتيح له الافادة منهما اقتصاديا وسياسيا .. فعلينا والحالة هذه ان نضطلع باعباء مسؤوليتنا التاريخية الكبرى التي فرضت علينا بحكم واقعنا الجغرافي وبحكم تاريخنا .. ولكي يكون دورنا فعالا مثمراً على نحو ما نشتهي علينا اولا ان نمارس الحياة الانسانية اللائقة في ظل النظام والعدل والمسلم .. ولكي يتحقق ذلك علينا ان نعمل على حل المشكلات العالقة بين بعضنا البعض وان نسعى في الوقت نفسه الى التعويض عما فقدناه _ من ناحية الثقافة _ بسبب سيطرة الاجنبي مدة تزيد عن الالف سنة كانت كلها استعبادا وحرمانا من العلم ومن كل الاسباب الضرورية لحياة الانسان المتقدم … الان وقد زالت سيطرة الاجنبي اصبح لزاما علينا ان تركز بالدرجة الاولى على الثقافة والمعلم والتربية للتعويض عما فاتنا وهذا , طبعا من مهام الحكام الذين عليهم ان يبذلوا اقصى ما يمكن لتثقيف الشعب ..

– يقولون عادة ان التاريخ يعيد نفسه .. فهل هذا صحيح ؟ ..

السياسة بنت التاريخ

  • التاريخ يعيد نفسه في الاحداث الكبرى عندما تتوفر الاسباب التي ولدت الحدث الاول , هذا علما بان ما يؤثر على الاحداث هو الواقع الجغرافي والقوة البشرية التي ما فعلت تحقق بارادتها ما يجب ان يكون وقد يكون هذا الشيء تكرارا لما كان في السابق او امرا بلدان الشرق العربي يمكن القول شبيهاً به. وبالنسبة الى تاريخ انه بدأ منذ اكثر من 5000 سنة. ونستطيع ان نلاحظ بكل وضوح انه طوال هذه الحقبة كانت تطورات شعوب المنطقة موجهة تقريباً وفقاً لمدن طبيعية او جغرافية او علمية او ما يسمونه الحتمية التاريخية.

وكل من يدرس تاريخ هذه البلدان في عهودها الاولى في الفترة ما بين سنة 3000 قبل المسيح وحتى الالف قبل الميلاد يدرك ان احداثها في خطوطها الكبرى هي تكرار لما سبقها وما حصل منذ بدء الالف الاول قبل المسيح حتى يومنا هذا هو تكرار ايضا لما وقع سابقا من احداث كبرى . فالسياسة كما يقول العلماء هي بنت التاريخ والتاريخ ابن للجغرافيا والجغرافيا لا تتغير ..

لبنان وطريق التغيير

– هل تؤمنون بأن لبنان يسير في طريق التطور لئلا اقول التغيير ..

  • الحقيقة ان التطور في لبنان ظاهر . لكن الشعب سواء هنا في لبنان ام في باقي البلدان العربية بحاجة الى توجيه من نخبة المثقفين واقول هنا صراحة ان النخبة المثقفة في لبنان هي اوسع ادراكا وعمقا من اي نخبة مثقفة في اماكن اخرى واذا تضامنت النخبة المثقفة في لبنان يمكن ان تحدث تغييرا جذريا في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية اعتمادا على مفاهيم علمية تناسب شخصية مجتمعنا وتنسجم مع طبيعة تكوينه الانساني والحضاري. ومن المهم ان اشيرهنا الى ضرورة الاخذ بفلسفة علم الاجتماع وعلم التاريخ والبسيكولوجيا فضلا عن العلوم التطبيقية …

واعتقد اننا نخطو بعيدا في عملية التغيير اذا استطاع الجيل الجديد ان يقف في مستوى ما يفرضه هذا التغيير من انقلاب على العقلية السياسية العتيقة التي لا تزال تتحكم في مصيرنا كله – واعتقد ايضاً ان مسؤولية الجيل الجديد والنخبة المثقفة المفروض ان تكون هي موجهة، تكمن بالدرجة الاولى في العمل على ايصال الكفاءات المؤهلة لبناء لبنان الغد الى الندوة النيابية. بحيث يمكن ان نطلق منها تيار الحوار الجريء بين مختلف الافكار والمبادئ التي تطمح جميعها الى التغيير لكنها تختلف شكلاً وفي اسلوب العمل. اما اللجوء الى الشارع واعتماد الشعارات الطنانة الفارغة من اي محتوى عملي قابل التطبيق فامر اقل ما يقال فيه انه اقصى درجات التخلف .. ومصلحتنا اليوم تقتضي منا ان نعمل يوعي بعيدا عن الغوغاء والضجيج فالمجتمعات المؤهلة النهوض والبقاء لا تبنى بالمظاهرات الشارعية بل بتوعية المواطن ونشر الثقافة وتعميمها في كل مكان …

هنا لي ملاحظة على هامش هذا الحديث وهي ان الشرقي في ذهنيته المختلفة عن ذهنية الغربي يهمه في الدرجة الاولى العدل. والشعوب العربية يهمها اولا ان يعم العدل الجميع انطلاقا من الفرد. واما الحرية والمساواة فشعارات لا تهم كثيرا لانها تاتي في مراتب ثانوية بعد المطلب الاساسي والاول وهو العدل للافراد وبالتالي للجماعة .. وما ضريبة ” الزكاة ” اصلا الا لتحقيق العدل بتحسين وضع الفقراء .. والشيء الذي تجدر ملاحظته هو ان الشرقي يهتم كثيرا للربح الفردي فهو لا يعمل ان لم تكن له منفعة من العمل بعكس الفرد الاوروبي الذي يعتبر نفسه والمجتمع واحدا. واعتقد ان علينا في لبنان ان نأخذ لانفسنا طريقا بين الاثنين – فلا راسمالية ولا شيوعية – بل نظام يضمن الحرية ويحقق العدالة الاجتماعية فتتمكن بذلك من تجنب الظلم الذي تأتي به الرأسمالية عن طريق ضمانها للحرية وتتجنب ايضا احتمال فقدان الحرية في ظل شيوعية اكثر عدالة في نظامها كما هو الحال في الانظمة الاخرى. النظام الذي ندعو اليه – اي الطريق الخاص بين الشرق والغرب – قد يكون فعلا افضل الانظمة بالنسبة الى وضعنا وظروفنا. لكننا كي نحقق ذلك بحاجة الى ما يضمن للكفاءات ذات الفعالية الانطلاق الحر وهذا ما لم يحدث حتى الآن والادلة على ذلك كثيرة مع العلم ان الدولة بنظامها الحالي تعرف حق المعرفة ان لبنان اعطى من المواهب والعبقريات الكثير لكنه لم يفد منها شيئا بل تركها وشأنها وقذف بها الى الخارج حيث نسمع اليوم باسماء لبنانية كثيرة ذات شهرة عالمية وعلى اعلى مستوى .

  • هذا صحيح .. لكن على الرغم من كل شيء اعتقد ان الدولة متى اهتمت بمصير لبنان لابد وان تركز اولا على العلم. واملي ان تأخذ الدولة اللبنانية هذه الناحية في مرتبة اولى من الاعتبار لان العصر هو عصر العلم وكل قوة مطلق قوة اجتماعية كانت ام اقتصادية ام سياسية ام عسكرية لا يمكن ان تكون قوة فاعلة الا اذا كان العلم اساسها ..

وهنا لابد ان اشير الى ان العلم هو الذي جعل اسرائيل تمتاز عنا في الوقت الحاضر . فقد جاءت الصهيونية بأدمغة اوروبية النشأة سلاحها العلم . واطلقت يدها في العمل الى ان قامت الدولة المسماة – اسرائيل –.. وقد افاد الاسرائيليون من العوامل الجغرافية ذات التأثير العميق في حياة الانسان والنبات والحيوان افادة مرحلية موقتة لكن ذلك لا يعني انهم في موضع يساعدهم في تحقيق حلمهم البعيد.. ذلك ان العوامل الجغرافية نفسها التي استطاعت قلة غربية ان تفيد منها مؤقتا لا يعقل الا ان تكون غداً في مصلحة الكثرة الاصلية في الارض اي الشعب الفلسطيني ومعه شعوب العالم العربي شرط ان نعمد الى تحسين اوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية وان نتسلح بالعلم ثم لا بد وان يأتي الظرف الملائم الذي نبرز فيه اننا الاقوى اهلية للعطاء والبقاء..

– وماذا تقولون عن اسرائيل في التاريخ؟..

  • كانوا شعباً قدموا الى فلسطين منذ الفي سنة واصطدموا بالرومان ثم تبعثروا في العالم وعزلوا انفسهم في بيئات خاصة في كل مجتمع نزلوا فيه. والحديث اليوم عن حقهم في الحياة يطول ويأخذ اتجاهات كثيرة معظمها لا يتفق والحقيقة بشيء. واذا كان من حق اليهود ان يعيشوا كأناس لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات بالنسبة الى البلد الذي هم فيه سواء كان فلسطين ام روسيا او فرنسا او الولايات المتحدة…

اذا كان ذلك من حقهم، وليس في العالم اليوم من يحرمهم هذا الحق الا انه ليس من حقهم قطعا اغتصاب اراضي الغير لاقامة دولة عنصرية وتشريد اصحاب الارض الاصليين بالقوة ولهذا اقول كما اغتصبوا فلسطين بالقوة سنخرجهم منها بالقوة..

– أستاذ جواد، هل تعتقد بأن للتيارات الفكرية والسياسية دوراً فاصلا في معركتنا ضد اسرائيل؟

  • اعتقد ان لكل تيار دوره في المعركة الا اني لا اعتقد ان هناك في الوقت من التيارات ذات التأثير سوى تلك التي تتمثل بالاشتراكية والشيوعية وهناك ايضا تيار القومية العربية وهو في نظري تيار عاطفي يحتاج تركيز في المفاهيم والى اصالة في التجاوب ووعي عميق للمسؤوليات التاريخية من جانب الحكام والشعوب العربية على حد سواء.

– وعن فلسفتك الخاصة في الحياة؟

  • انا اؤمن بالتاريخ واعتقد ان الاتنصار الحقيقي هو انتصار المعرفة التي ستبني الحياة الجديدة بالعلم والمحبة..

واخيرا قبل ان اودع الاستاذ بولس خطر لي ان اعود الى السياسة فقلت : لا من قبل ادخال السياسة في هذا الموضوع بل بفعل من الفضول احب الاستاذ جواد ان اسألك لماذا اعتزلت السياسة وتتجنب الحديث بها وانت الذي سبق ان رشحوك لرئاسة الجمهورية ؟ ..

اجاب بحركة عصبية …

  • نعم رشحوني .. هم رشحوني .. لكن تفكيري كله كان منصرفا الى فلسفة التاريخ .. الا يكفي ذلك ؟..

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *