رحلة في العقل اللبناني مع جواد بولس

في مطامحنا ، نحن الناس البسطاء ، نعتمد على ماذا؟ بأية حبال نتعلق؟ كيف نراهن على مستقبلنا؟

نريد لبنان بلد المستقبل وبلدنا جميعا … من يشق الطريق؟ الجواب، باختصار: العقل اللبناني !

لنذهب اذن في رحلة الى داخل العقل اللبناني. لنكشف كيف يفكر أولئك على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم و أفكارهم ، يصنعون في نهاية المطاف طريقنا الى المستقبل.

“رحلة في العقل اللبناني” عنوان لحلقة جديدة بدأ بنشرها الملحق منذ عشرة أسابيع. وهي سفر في مخيلات و أفكار بعض الرجال البارزين في الحقول الفكرية والادبية والفنية والسياسية والاقتصادية والعلمية الخ …

ماذا عمل هؤلاء للبنان؟ كيف يرون مستقبله خلال ماضيه وحاضره؟ كيف يحسونه بالبصيرة قبل أن يروه بالبصر؟ ما هي المشاريع التي تتكون في مخيلاتهم من اجل لبنان؟ ما هي ملاحظاتهم على الواقع الحالي؟

هذه التساؤلات وغيرها الكثير تشكل جوهر الحوار مع الذين اشتركو وسيشتركون في سلسلة ” العقل اللبناني” والتي نشرنا منها تسع حلقات في الاعداد السابقة مع الاساتذة : أنور الخطيب، سعيد عقل، منح الصلح، ميشال أسمر، حسن صعب، كمال الحاج، جوزيف باسيلا، رشيد بيضون، سليم واكيم (مناقشة) ، وباسم الجسر. و ننشر اليوم حلقة عاشرة مع المؤرخ الاستاذ جواد بولس.

“العقل اللبناني ” مغامر: يتميز بالصفاء و الواقعية و الموضوعية

لم يتصرف لبنان ، حتى الآن ، تصرف المستقل بنفسه

لبنان ليس مستقلا

  • هل تعتقد ان لبنان الحالي ، هو لبنان الذي كان يجب أن يكون ، بعد فترة الاستقلال التي مرت عليه: سياسيا و ادبيا و اجتماعيا و اقتصاديا ؟

لم يتصرف لبنان بعد الاستقلال تصرف المستقل بنفسه تماما. اذ ظل يفتقر الى الشعور الاستقلالي الصحيح. شأنه في ذلك شأن سائر دول الشرق العربي، التي اعتقدت ان الاستقلال ” متعة “. فالاستقلال يؤخذ و لا يعطى، و الاستقلال مسؤولية كبرى، و في الشرق العربي ، لم يؤخذ الاستقلال كما اخذته بلدان عديدة و منها الجزائر، مثلا. و بديهي اننا لو اخذنا هكذا لتبدل تصرفنا بعد نيله حتما، و لكننا ظللنا بعد نيل الاستقلال نتصرف نفسانيا كأن هناك منتدبا علينا مسؤول عن قضايانا المصيرية. لذلك انصرفنا الى اللذة والترف واللامبالاة ، مما ادى بنا الى الفوضى دون ان ننصرف الى العمل البناء و بذل المجهود. ذلك ان الاستقلال يتطلب جهودا و تضحيات و دأبا مستمرا لتحسين جميع الاوضاع و لرفع مستوى كافة الفئات التي تألف منها المجتمع.

و الجدير بالذكر ان تصرفنا بالديمقراطية كان تصرفا اسميا اكثر منه فعليا ، و اهملنا في بناء الدولة عناصر الجدية و التضحية و تحمل المسؤولية و الاخلاص و الاجتهاد المجرد و الثقافة و العلوم.

و لا شك بأنه يوجد ، أدبيا ، نهضة افرادية مبعثرة لم تجد في الدولة مشجعا لها على غرار ما يحصل في الدول الراقية ، و ما أقوله عن الادب انما اقوله عن الاجتماع و الاقتصاد اللذين هما نتيجة مبادرات شخصية طالما عرقلها تصرف الدولة.

و كل لبناني غير متحيز يتأكد بأن لبنان ، في تصرفه الداخلي كدولة ، انما رجع الى الوراء و لا سيما في الادارة و التنظيم.

أما في السياسة الخارجية ، فانه لم يلعب الدور الذي يؤهله له وضعه و تاريخه و طاقاته.

صفاء في التفكير .. وواقعية

  • ما هي برأيك أبرز السمات التي يتسم بها العقل اللبناني ؟ الى أي حد أثر هذا العقل على الصعيد الانساني ؟

– ان ابرز السمات التي يتسم بها ” العقل اللبناني ” هي الصفاء في التفكير ، و الواقعية و الموضوعية و حب الاستطلاع. و التبادل الحضاري و الثقافي و التجاري مع سائر بلدان العالم. هو أول من مارس مبدأ الاخذ و العطاء اقليميا و عالميا ، ساعده في ذلك موقعه الجغرافي ، و روحه المغامرة الخيرة في التجارة الداخلية و الخارجية ، و انفتاحه على العالم و ريادة المجهول ، ناقلا جميع الافكار و التيارات العقائدية و الثقافية و الاجتماعية من اي نوع كانت ، تقدمية أو محافظة ، و هذه لم تمنع من أن يبقى على حبه لأرض وطنه لبنان و تعلقه بها و استشهاده في سبيلها.

و هذه الصفات مكنتنا ، منذ خمسة آلاف سنة الى يومنا هذا ، أن نتفهم و ننقل مدنيات الشرق و آسيا الى أوروبة و افريقيا ، و العكس بالعكس ، عن طريق الاساطيل البحرية و القوافل البرية التجارية.

الرأسمالية غير مبالية

  • بصفتك مؤرخا كبيرا ، كيف تنظر الى الاحداث التي عاصرتها في مدى نصف قرن من الزمن ، و ما هي ابرز التحديدات التي تعطيها لهذه الاحداث ، و الى أي حد ، برأيك أثرت على الشخصية اللبنانية؟

لم تحدث ، بمقياس الاحداث التاريخية الخطيرة ، أحداث مهمة في هذه الفترة من الزمن ، الا اذا استثنينا استقلالات بلدان الشرق العربي و قيام دولة اسرائيل في جزء من أرض فلسطين ، و لا سيما الاحداث الاخيرة التي وقعت بتاريخ 5 حزيران.

على العموم، لم تؤثر هذه الاحداث البتة على تغيير الشخصية اللبنانية، ولم تنبه ضميرها كل هذه الاحداث التي كان لها تأثير عميق على الطبقات البورجوازية الحاكمة وغيرها في دول الشرق العربي، والمفسرة بالانقلابات و التيارات الفكرية التقدمية التي دفعتها وتدفعها نحو العلمنة والرقي وتقدم الشعوب ورفع مستوى طبقاتها ، بينما في لبنان ظلت الرأسمالية غير مبالية ، تتصرف تصرف ” المركنتيلية ” في القرن التاسع عشر.

طائفية سياسية

  • يقول البعض أن وجود الطائفية شيء ضروري في لبنان ، ماذا تقول أنت ؟ بوجه عام ، كيف تنظر الى الطائفية ؟
  • الطائفية في لبنان طائفية – سياسية ، الحقيقة انها تعبير عن المجتمع القبلي لاننا في دور التطور الاجتماعي ، و في سائر دول الشرق العربي لم تزل ، مع ما طرأ عليها من تقدم نتيجة الاحداث كما جاء في جوابنا السابق ، النفسية القبيلة هي السائدة.

لذلك ، فلا بد انها ستزول مع الايام بتطور النفوس. و لكن هذا التطور يتطلب ازمنة طويلة و اجيالا متعددة ليحل بعدها محل الحس الطائفي الذي نعانيه الحس الحزبي ، أي التجمع بين أشخاص على مبادىء اجتماعية أو اقتصادية أو علمية أو فلسفية واحدة.

الطائفية في لبنان … سياسية وهي تعبير عن التجمع القبلي

الثقافة اللبنانية : مميزة

  • هل تعتقد أن الثقافة اللبنانية أليفة مع طبيعة و شعب لبنان، أم أنها غريبة عنه غير منسجمة مع بيئته؟ و هل ان لبنان ” يشكو ” من كثرة الثقافة فيه، أم من كثرة الامية. برأيك ما هو الدور الذي لعبته و تلعبه الثقافة اللبنانية في تنسيق الشخصية اللبنانية ؟

– ان الثقافة هي تعبير عن نفسية الشعوب و لا يمكن أن تكون الثقافة اللبنانية غير أليفة مع شعب لبنان و طبيعته ، و الثقافة اللبنانية تأتي نوعا بمعنى ما ورد في جوابي عن أبرز سمات العقل اللبناني.

ولا يمكننا القول، مع ذلك، أن في لبنان ثقافة، بالمفهوم العلمي، انما يوجد مثقفون، وبين الثقافة اللبنانية والمثقفين فارق ناجم عن اهمال الدولة لهذه الناحية الحيوية الحساسة في تاريخ البلاد، لان الشعوب، و خصوصا الشعوب الصغيرة ، فقوتها واحترام.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *